نجيب شجاع الدين - إن كنت من محبي الهدوء فإنك في صنعاء لن تجد ذلك إلاّ ليلاً..
صنعاء تنام مبكراً.. ليستيقظ آخرون فيها.. وقليلون هم الذين يعشقون السهر.. يعيشون حتى لحظات الفجر الرمادي.
مابعد الثانية عشرة ليلاً.. ليس غريباً ألا تجد باصاً يقلك الى حيث تريد.. لكنك بالطبع ستجد سيارات التاكسي »عادية« واخرى »راحة« فهل أنت مرتاح..؟!
مابين محافظة صنعاء ومحافظة عدن فرق شاسع ففي الاخيرة يبدأ الناس بالخروج ليلاً.. وفي الاولى يعود الساكنون ادراجهم وفي كلتا الحالتين ثمة وجوه تصادفها، اضواء، ابواب محلات لاتزال على كف الرحمن تنتظر زبائنها المعتادين..
^ يوجد اعتقاد سائد بأن واحداً من أهم مفاتيح الرزق هو الخروج مع طلوع الشمس صباحاً، ولكن اعتقادك هذا قد يغير زيارتك لبعض الاماكن ليلاً.. وفي هذا الشأن.. اول مايلفت نظرك الى حد الاستغراب التعجب من ليل العاصمة الساكن ازدهار عملية بيع القات وكأنك في عز الظهر، ويتساءل عبده الجولحي: من قال بأن الناس تنام في الليل.. السوق مولِّع و»الموالعة« لايتوقف مجيئهم الى السوق في الليل.. انا لي اكثر من أربع سنوات في سوق مذبح ابيع القات في الليل ونادراً ما يكون »البوار«.
وفي هذه الساعة المتأخرة تكثر دواعي التخزين فمنهم من يقول : مذاكرة، عرس، لقاء شبابي، غداً اجازة رسمية.
فيما آخرون لهم اسباب أخرى مثل.. القات في الليل أرخص وأطعم.. كثيرون يعشقون التخزين ليلاً، لكن أحداً لايقول ذلك دون ان يسوق مبرراً مهنياً!.
العمر قصير، الساعات المريحة قليلة ونادراً ما تأتي..
ما الذي يمنعك مادام مستقبلك مضموناً.. فأنت بحسب تعبيرهم (محيِّد) اي ضائع مقطوع من شجرة.. تعول نفسك فقط.. وليس عليك اي التزامات لا حد ولا أحد يسأل عنك وماذا تفعل؟! إذاً فالقات خير جليس في الليالي الحائرة.. ردد معي وأنت بالعود تتهنأ وطعم المثاني، ياقلبي تسلى وشيل الهم عنك.
بيع الرواح
^ تعودت اثناء مروري وسط سوق باب اليمن غير المزدحم في هذه الاثناء الاستماع لأصوات البائعين وهم يروجون بضاعتهم بصوت مرتفع (بيع الرواح - آخر كيلو اية حبة جرب وذوق) ولكن مع هذا فإن للشخص المجرب نصيحة مفادها : ان الغش بكل أنواعه يبدأ في الليل وينتهي عندما تصل الى المنزل لتشاهد تحت الضوء ماذا اشتريت بكل التخفيضات؟!
وعلى بعد مسافة ليست بعيدة تسمع أصوات سائقي السيارات »تعز، تعز، إب، ذمار، عدن.. هل من مسافر؟!«.. هناك من يفضل السفر ليلاً لما يفيضه الهدوء على ساعات الرحلة.
ياورد.. يامجموع
^ وفي آخر الليل شن شني.. شن شني.. ويامطر رشني على انغام فيصل علوي تتراقص البوفيهات.. ياورد ياكاذي ياموز يامشمش يامجموع نحن في خدمتكم 24 ساعة.. مكتوبة بالخط العريض على باب المحل الواقع في ميدان التحرير والذي لايوصد بوجه الزائرين سوى مرتين في السنة بحسب الاخ سعيد.. موضحاً بان هناك ورديتين الاولى تعمل حتى المساء والثانية حتى الصباح وهكذا بلا توقف.. الليل بركة ورزق كثير. من الذي يأتي؟! اصحاب القاطرات الذين يأكلون كثيراً ويدفعون بسخاء.. نحن على شارع عام وفي كل لحظة تتوقف سيارة او اشخاص لدخول البوفية وطلب مايريدون.
يغادرني قبل يصرخ يواصل تعليماته بصوت حاد.. واحد أحمر.. تعالي (بياس)!!.
شوارع
^ الواحدة والنصف ليلاً.. الطرقات في راحة من دوران اطارات السيارات.. في جولة كنتاكي بشارع الزبيري تختفي ليلاً تلك الزحمة وضجيج الابواق وادخنة باصات الديزل وغيرها.. لا وجود لاشكال التعثر واشتباكات السير واختلاط الحابل بالنابل.. على ذلك النحو الذي تغيب فيه قاعدة أن القيادة فن وذوق وأخلاق!.
على أنك في الليل لست في مأمن (!) فابتداءً من هذه الساعة تشهد شوارع امانة العاصمة نوعين من السائقين رغم قلتهم.. الاول يسير ببطء وبتخبط حيث تتحول الشوارع في هذا الوقت المتأخر الى ميدان لتعلم القيادة وبالذات من قبل مالكي سيارات وباصات الاجرة.. وخاصة تعليم الاطفال غير المسموح لهم بأخذ التراخيص.. إلاّ انهم يعملون بعد اشهر كسائقين معتمدين تراهم في كل جولة.
وفي حين يسابق آخرون الريح.. يستمتعون باستعراضات السرعة والتفحيط.. تتعرض اعمدة الانارة للانحناء واعلان النهاية لأي مصدر ضوء.
مدن الليل ومجانينها
^ حينما تنتهي الاقدام من تمشيط الطرقات.. وفي أول لحظة فراغ.. بعد احتلال الظلام تُـبنى هناك على قارعة
وزوايا الطريق.. قصور ومنازل.. يسكنها اصحاب الاحلام الوردية.. وقد انتشرت في أنحاء من العاصمة العديد من التجمعات السكنية العشوائىة تحت مسمى »مدينة الليل« نسبة إلى توقيت بنائها خلسة في الليل بعيداً عن عين الحكومة.هناك ينام مجنون ويضحك ثانٍ بصعوبة كأنه ضبع.. وغيره يحدث الهواء ويتلو زوامل شعبية وآخر يخوض جدلاً ساخناً مع عائلته ويلعن تاريخ القبيلة معدداً اسماء اولاده الصغار.
فيما يمثل الليل فرصة فريدة لفقراء كثر يجمعون الفضلات المرمية على الطرقات والنبش في البراميل، وهي علب بلاستيكية ومعدنية لبيعها في الصباح وكسب جزء من رزقهم بعرق الجبين.
شا شات
^ مقاهي الانترنت ساهرة حتى يكمل الجالسون أمام شاشات الكمبيوتر دردشاتهم.. بينما يبدو عليهم وكأنهم تحت تأثير مخدر.. لايشعرون بمرور الوقت فجاذبية الشبكة العنكبوتية لايضاهيها سحر..
انها جواز سفر إلى العالم بكل تفاصيله وهي ابواب مفتوحة لكل العلوم والمعارف لا حدود ولاقيود في طلب المعرفة.. ولكن قليل هم الذين يطلبون ذلك، اما الغالبية فيمضون الوقت في الدردشة تحت القاب وهمية، والعاب المصارعات وسباقات السيارات وماهو متاح من المواقع الترفيهية.
|