< محمدعلي عناش -
< لم تكن اليمن بعيدة عن موجة ما يسمى بثورات الربيع العربي، والتي تفجرت فجأة وبلا مقدمات بدءاً من تونس في ديسمبر 2010م وبسيناريو واحد وشعارات واحدة أهمها «ارحل» و«الشعب يريد اسقاط النظام» سرعان ما تداعت وامتدت الى أقطار عربية عدة ومنها اليمن وكأنها تتنقل من دولة الى دولة على عربة واحدة، اتضح أنها عربة قطرية يقودها الاخوان وتقل معها جميع متناقضات المجتمعات من يمين ويسار.. يرفعون بشكل موحد شعارات الحرية والديمقراطية والدولة المدنية، ويهتفون بصوت واحد «الشعب يريد اسقاط النظام».
الحقيقة أن هذه الأحداث ظهرت في مرحلة عربية كان لابد أن تبدأ فيها عجلة التغيير بالتحرك نحو بناء الدولة الديمقراطية وتنظيم عملية التداول السلمي للسلطة والقضاء على الكثير من مظاهر الفساد والبيروقراطية المتفشية في أجهزة وهياكل هذه الأنظمة والحكومات، ومعالجة الكثير من القضايا والمشاكل التنموية، ومثل هذه المسائل لا تحل أو تتحقق فجأة وبمجرد رحيل الحاكم العربي المرتبطة به أهم أركان ودعائم الدولة، وإنما في إطار صيرورة من الإصلاحات والتوجهات الجديدة، التي تؤدي في النهاية وفي مدى زمني معين الى تحولات إيجابية في المجتمع، وهذا هو المفهوم والمضمون الحقيقي لمصطلح العدالة الانتقالية.
تسارع الأحداث وتداعياتها بنفس السيناريو والشعارات جعل العالم يقف مدهوشاً أمام ظاهرة عربية أخذت شكل الثورات العظيمة، لذا تم تسميتها.. ثورات الربيع العربي.. وتم بناء المواقف والتعاطف معها على جميع المستويات الاعلامية والسياسية والدبلوماسية على هذا الأساس، غير أن حسابات المصالح وهواجس احتواء هذه الثورات، وأيضاً الثأر السياسي وتصفية الحسابات مع بعض الأنظمة، تدخلت في بناء المواقف بحيث جعلت الكثير من حكام العالم لا تعنيهم ولا تهمهم ما تخفيه هذه الثورات من ألغام ومن متناقضات، ومن أدوات ثورية لا يمكن أن تكون بالأدوات المستقبلية لبناء الدولة الديمقراطية ومجتمع السلم والتعايش، ولم تكن تعنيهم أيضاً مخاطر الرحيل المفاجئ لهذه الأنظمة المرتبطة بها أهم مرتكزات الدولة في مجتمعات هي أقرب الى المجتمعات العشائرية والكيانات المجتمعية المتعددة دينياً وعرقياً، حيث إن أبسط اختلال أو تغير غير مضبوط في مرتكزات هذه الدولة سيؤدي الى اختلال نظام عام هذه المجتمعات.
بعد ثلاثة أعوام منذ بداية ثورات ما يسمى بالربيع العربي، ليس هناك ثورة عربية ناجحة، حيث مضت هذه الثورات في مسارات منحرفة ومدمرة، نتيجة لسيطرة الاخوان المسلمين عليها منذ البداية، فتحكموا بإمكاناتها وهم من حددوا مصائرها تحت شرطية إما الوصول الآمن للسلطة أو الوصول بالقوة والعنف المسلح على جماجم وأطلال مجتمع مدمر ومعاق، ومن خلفهم إسناد عربي ودولي، والى الآن تحكي مؤشرات الأرقام عن النتائج الكارثية والمأساوية لحكاية هذا الربيع الاخواني المسخ والكارثي أكثر من (200.000) قتيل، وأضعاف هذا الرقم جرحى ومعاقون وأكثر من مليون ونصف مشرد، وبنى تحتية مدمرة تحتاج لأكثر من نصف قرن لإعادة بنائها، الا أن الظروف المنتجة غير مهيأة للقيام بذلك، فما يزال النزيف والخراب مستمراً، لكن بخلفيات دينية وطائفية ومذهبية وعشائرية، كأبرز سمات ونتائج هذه المرحلة الاخوانية، وإصلاح ما تحدثه مثل هذه الحروب في الواقع، لا يمكن أن يتحقق الا بعد ترميم وإصلاح الخراب الذي أحدثته في النفوس والعقول وهذا يحتاج زمناً طويلاً.
هذه أبرز سمات ونتائج المرحلة الاخوانية كون جماعة الاخوان المسلمين لا تجيد بناء دولة المواطنة ومجتمع السلم والتعايش المشترك وإنما تجيد العزف السيئ والقميء على أوتار هذه الهويات القاتلة وإثارتها وتأجيجها، مستخدمة كافة الأدوات التي تمتلكها بما فيها أداة تنظيم القاعدة الارهابي الذي يعتبر ثوباً من أثوابها المتعددة التي تتخفى فيها.
وبقدر حدة المواقف الدولية والعربية من هذه الثورات وحجم الاسناد لجماعة الاخوان وملحقاتها من الجماعات الجهادية والارهابية كانت النتائج، فرأينا عنفها وأسوأها في ليبيا وسوريا اللتين دفعتا الكلفة الباهظة لهذا الربيع الاخواني المسخ.
اليمن لم تكن بعيدة عن الأحداث فالسيناريو طُبّق بحذافيره، غير أن النتيجة المحققة هنا سارت في مسار آخر مختلف، رغم حدوث الاستفزازات في أكثر من مكان كالحصبة وأرحب وتعز وأبين، لذا فهنا ليست ثورة وإنما مبادرة بين طرفين أحد الاطراف يصر على أن يلبسها ثوب الثورة وفقاً لما يحلو له وما يتكيف مع طموحاته وقد حقق نجاحاً كبيراً في هذا الاتجاه خاصة في أخونة الكثير من المؤسسات وتجنيد أكثر من مائة وسبعين ألف جندي من كوادره الحزبية، لكن ما هو مؤكد وواقعي في اليمن أن أدنى تغيير لم يحدث ولم يتحقق، بل تدهور الوضع أكثر، وصار الشعب اليمني هو من يكتوي تحت نار هادئة ويتجرع الهلاك ببطء.. المبادرات قد تقي الشعوب مخاطر وويلات صراعات القوى الطامحة في السلطة وتعمل عملية وفاق تقود في النهاية المجتمع الى مرحلة الأمان والقدرة على التعايش المشترك والتداول السلمي للسلطة، إن ضبطت بأسس ورؤى وخطوات انتقالية تنفيذية جادة، ما لم فإن هذه المبادرات ليست الا مجرد استراحة محارب ولا تعمل سوى تأجيل الكوارث لكن تجدها أشد، نظراً لما أفرزته فترة استراحة المتصارعين والطامحين.
تبدأ الحكاية في يمن الأزمة لا الثورة، أي الأزمة التي فرضت مبادرة وحكومة وفاق وطني ومرشحاً رئاسياً انتقالياً توافقياً وأخيراً مؤتمر حوار وطني.. نتذكر أن في 10 مارس 2011م وفي ملعب مدينة الثورة عندما خطب الزعيم علي عبدالله صالح بحضور مختلف القنوات المحلية والعربية والدولية، طارحاً مبادرته الشهيرة التي ثمن فيها خروج الشباب الى الساحات من أجل التغيير، ومقدماً عروضاً مغرية للسير في مسار حقيقي وآمن نحو بناء الدولة الديمقراطية المدنية، أهمها تطبيق النظام البرلماني والقائمة النسبية - نظام الأقاليم، ومؤكداً استعداده مغادرة السلطة وفق أفضل طرق الانتقال الآمن للسلطة، وفي مدى زمني معين يتفق عليه، بالإضافة الى تشكيل حكومة إنقاذ وطني بالتساوي مع المشترك، على الرغم من أن هذا العرض المتمثل في تشكيل حكومة إنقاذ وطني كان مطروحاً على المشترك منذ ما قبل الأزمة بسنوات.
وكعادة المشترك في رفض مثل هذه العروض جاء أيضاً وبشكل سريع رفض المشترك للمبادرة ولم يكن هناك من مبرر سوى أن البت في هذا العرض ليس من حقهم وإنما من حق الشباب.. مبادرة الزعيم هذه، قيمتها الأخلاقية والسياسية عالية ومرتفعة أكثر بكثير من المبادرة الخليجية كونها جاءت والدنيا سلامات ومافيش ضحايا، بالإضافة الى أنها انطلقت من إرادة صادقة في التعبير وتحقيق انتقال سلمي آمن للسلطة، مستفيداً من مسار الأحداث في تونس ومصر وليبيا، ومدركاً في نفس الوقت مخاطر الانتقال أو الرحيل المفاجئ وخاصة في ظل تركيبة المجتمع اليمني، وأيضاً تركيبة قوى الثورة في الساحات التي يهمن عليها الاصلاح بشكل كبير.. قوة هذه المبادرة وأهميتها خاصة وأنها أخذت مساحة كبيرة من التعاطي والتفاعل الخارجي معها، وأصبحت في طريقها الى التفعيل جعل المشترك وبالذات الاصلاح يعمل على تعطيل وتغيير المعادلة عبر إحداث جمعة الكرامة في 18 مارس 2011م، بعدها تطورت الاحداث في مسار آخر ملون بلون الدم ومزركش بالأشلاء وأصبحت بعدها كل المبادرات مرفوضة وبصوت واحد «لا مبادرات بعد دماء الشباب» لتتطور الأمور أكثر وتصل الى حد المواجهات المسلحة في الحصبة وفي أكثر من منطقة، وتحريض الشباب على الزحف وتقديمهم قرابين لأهواء مطامح الاصلاح وتوابعه من أحزاب وقوى نافذة كي يتم استثمارها في الترويج والتضليل والهروب من الحلول الموضوعية والمنطقية، وعلى الرغم من كل المحاولات الانقلابية بما فيها حادث جامع الرئاسة الاجرامي الذي استهدف الزعيم ومعظم قيادات الدولة، لم يتمكن المشترك من أن يجر وضع البلاد الى دائرة الفوضى الشاملة أو ما يسمى بالحرب الاهلية، في نفس الوقت الذي لم يتمكن فيه من حسم ما يسمى بالثورة عبر الانقلاب والمواجهات المسلحة، رغم أن النظام كان يملك حينها كل إمكانات الحسم السريع، لكنه لم يلجأ الى هذا الخيار مفضلاً تقديم التنازلات المتتالية لتحقيق أفضل طرق التغيير السلمي والانتقال الآمن للسلطة.
من هنا استجاب المشترك للتوقيع على المبادرة الخليجية والتي كان قد رحب بها الزعيم وتحت رعاية أممية وعربية وهي المبادرة التي لم تكن الا صدى لمبادرة الزعيم في ملعب الثورة التي تعتبر أرقى منها بمقاييس أخلاقية وسياسية كونها جاءت في ظروف خالية من الدماء والضحايا، وكونها وضعت النقاط على الحروف منذ البداية وخاصة في أهم القضايا الجوهرية التي تؤسس لانتقال حقيقي في المجتمع.
كان الهدف من المبادرة الخليجية هو الخروج من هذه الأزمة الخانقة وتجاوز المنعطف الخطير الذي تمر به البلاد، وتحقيق انتقال آمن للسلطة خلال مرحلة انتقالية لا تتجاوز السنتين مشتملة على بنود مزمنة يتم تنفيذها خلال المرحلة الانتقالية أهمها تشكيل حكومة وفاق وطني، ورفع المتارس والنقاط العسكرية والقبلية المستحدثة، والعمل على هيكلة الجيش والأمن هيكلة متوازنة وبأفضل الطرق العلمية التي تؤدي الى بناء وتأسيس جيش وطني موحد متماسك يتبع الوطن ويحمي سيادته ومكتسباته، لا جيش يتبع أفراداً وأحزاباً، ثم عقد مؤتمر حوار وطني لتتويج المرحلة الانتقالية بمخرجات وطنية من الحلول والمعالجات الحقيقية والجادة لكافة قضايا ومشاكل البلاد وأهمها القضية الجنوبية وقضية صعدة وقضية بناء الدولة الحديثة وتحديد شكل الدولة ونظام الحكم والتجهيز لإجراء انتخابات في 21 فبراير 2014م.