< محمدعلي عناش -
تكلمنا في مواضيع سابقة ومنذ ما قبل انعقاد مؤتمر الحوار الوطني، أن مؤتمرات الحوارات الوطنية تعتبر من أرقى وأفضل الأدوات السياسية الحضارية لإدارة الأزمات وحل الخلافات ومعالجة القضايا والمشاكل، إلاّ أن نجاح أي مؤتمر حوار وطني يتوقف على مدى ارتكازه على معايير أخلاقية ووطنية وفي مقدمتها المصلحة العليا للوطن والشعب، والتي تتمثل بدرجة أساسية في المحافظة على كيان الدولة من الانهيار والسقوط تحت أي ظرف من الظروف، والمحافظة على الأمن والاستقرار والسلم الاجتماعي.
<كما تكلمنا عن ضرورة تجنب عوامل الاخفاق والفشل والتي غالباً ما تسود في مثل هذه المؤتمرات، وفي مقدمتها ما يسمى بـ«دائرة الثقافات السبع» وأهمها الانتقام والتآمر، وتضييع الوقت وشخصنة القضايا «البحث عن كبش فداء» والمباراة الصفرية في التفاوض والتي تعني التشبث بالآراء والمواقف والأجندة الخاصة، وعدم الاستعداد لتقديم أية تنازلات، من أجل أن يحقق هذا الطرف أكبر قدر من المكاسب والأهداف الخاصة، مقابل الانقضاض على الطرف الآخر وإلحاق أكبر خسارة به، وفي المحصلة يكون الوطن هو الخاسر الأكبر لما قد يترتب على فشل هذه المؤتمرات من حروب ونزاعات واستقرار الأزمات، نظراً لاتباع وانتهاج المباراة الصفرية في التفاوض والحوارات..
هذا الذي حدث بالضبط طوال انعقاد مؤتمر الحوار الوطني، حيث غابت المعايير الأخلاقية والوطنية، وحضرت بقوة الثقافات السبع والتي تجسدت في التركيز على اسقاط الحصانة والعزل السياسي، في مقابل ترحيل الأولويات المرحلية والقضايا الوطنية الرئيسية التي لم يتم انجازها حتى الآن.
المرحلة الانتقالية التي ارتبطت بتنفيذ المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية المزمنة انتهى سقفها الزمني دون أن تكلل بالنجاح وتخرج البلاد من أزماتها، وإنما أضافت أعباء وأزمات جديدة، كانت هي في الأساس مرحلة تأسيسية قائمة على وفاق وطني وتسوية سياسية لإخراج البلاد من أزمة أحداث 2011م، وتحقيق الانتقال السلمي للسلطة وتسوية الكثير من المشاكل والقضايا الوطنية.
لم يتعامل المشترك ويتعاطَ مع المرحلة الانتقالية على هذا الأساس ومن هذا المنطلق، منذ أن تم تشكيل حكومة الوفاق الوطني، وانما تعاطى معها بحس تآمري وحس تصفية الحسابات والانقضاض على الطرف الآخر في التسوية السياسية، فحكومة الوفاق الوطني لم تتكئ على أسس وطنية وحسن النوايا وهدف التغيير والتأسيس البنيوي لأركان الدولة الوطنية الحديثة، وإنما اتكأت على وعي المحاصصة والمكاسب الحزبية وعلى وعي الانتقام وتنفيذ الأجندة لمراكز القوى الحزبية والقبلية والعسكرية، فطوال هذه المرحلة الانتقالية الوفاقية لم ينتقل المشترك من وعي الساحات الى وعي لحظة الوفاق والتسوية السياسية واستحقاقاتها المرحلية التي كانت تفترض أن تغير معها التوجه والخطاب والمواقف، وإنما استمر بخطابه الثوري في مربع واحد لا يتعدى مربع الشخصنة، وظل خطاب الثورة والتغيير والدولة المدنية خطاباً فوقياً ومجرد تنظير للتسويق السياسي، لم يتحول الى برامج وتوجهات عملية، بل على العكس من ذلك كان يتنافى مع ما يرتكبه وزراء المشترك في حكومة الوفاق من فساد وتجاوزات وما تمارسه قواه القبلية وميليشياته الحزبية من تقطعات وخروقات وأعمال خارجة عن النظام والقانون.
ذهنية التآمر ووعي الحيلة والتربص والاستحواذ هي التي سادت خلال المرحلة الانتقالية، وغابت ذهنية التأسيس والبناء الوطني المستقبلي، تجلى ذلك في مستويات كثيرة أبرزها الاقصاء والاستبعاد والتجنيد الحزبي والفساد المالي والسياسي الممنهج والاشتغال على قانون العدالة الانتقالية من منظور حزبي وقضية الحسابات لا من منظور وطني مضمونه وجوهره التغيير الجذري والشامل، ومن ثم الاشتغال بنفس السياق والتوجه على قانون العزل السياسي وإسقاط الحصانة، في ظل استمرار التلاعب في تنفيذ المبادرة الخليجية وآلياتها المزمنة، واستمرار تحويل الوزارات والمؤسسات العسكرية الى اقطاعيات حزبية للاصلاح وعلي محسن، في حين استمر الاستهداف الممنهج للمؤسسات العسكرية والأمنية النظامية بسبب اخطاء فادحة ارتكبتها خطة الهيكلة.
الحادث الارهابي الذي وقع في مجمع الدفاع ومستشفي العرضي الذي أدمى القلوب نظراً لبشاعته ووحشية منفذيه ومرتكبيه، لم يكن حادثاً عرضياً أو حادثاً ارهابياً قاعدياً فقط ينتهي بحداد أو أربعينية، ونترك امتداداته وتداخلاته المختلفة، الحادث هو ابن هذه المرحلة الانتقالية التي لم تكن مرحلة وفاقية ولا تأسيسية وإنما مرحلة انتقامية، هو امتداد لكل سلبياتها واخطائها وتجاوزاتها، لكن بشكل كبير وأكثر جرأة، هو التتويج الأخير للأهداف والغايات والطموحات التي نمت وتضخمت خارج كل المعايير الاخلاقية والوطنية والاستحقاقات المرحلية..طوال هذه المرحلة الانتقامية وتحت يافطة الثورة والتغيير عشنا مسارات منحرفة عدة على جميع المستويات السياسية والاعلامية والاجتماعية والعسكرية، لم يوقفها أو يصحح مسارها من يتباكون اليوم ومن أصبحوا هدفاً للتعصب وكاتم الصوت، ومن لا يخجلون كي ينتصروا للحقيقة ولدماء الشهداء التي سفكت في مذابح الغدر والتواطؤ والطموحات الانقلابية، رغم ادراكهم ووعيهم بالحقيقة وحجم المخاطر التي تتهدد البلد، بل نجد منهم من مازال يلبد الاجواء بالتضليل والتشويه وخلط الأوراق والاستمرار في السير في المسارات المنحرفة.
اجتماع رئيس الجمهورية عبدربه منصور هادي باللجنة العامة للمؤتمر الشعبي العام عقب أحداث مجمع الدفاع، كان صفعة قوية لهؤلاء ولحزب الاصلاح الذي مازال يحاول أن يخفي الحقيقة ويطمس أركان الجريمة، ويبتذل كثيراً كي يحركها في اتجاهات الاشخاص كعادته منذ بداية الأزمة، أصبحت غير مقبولة ولا مستساغة، وبقدر ما كان هذا الاجتماع المفاجئ صفعة موجهة بقدر ما يحمل دلالات كثيرة ورسالة قوية لكل هؤلاء كي يصححوا مساراتهم المنحرفة ويتجاوزوا خطاب التضليل ووعي الانتقام وشخصنة القضايا.. ومثل هذا الأمر لم يأتِ من فراغ وإنما من شواهد وحيثيات كثيره متعلقة بالحادث الاجرامي.. ومن تقييم حقيقي لأخطاء وانحرافات المرحلة الانتقالية..
كلمة الرئيس هادي عشية ذكرى عيد الجلاء، أي قبل حادثة مجمع الدفاع بخمسة أيام، حملت الكثير من المضامين الرئيسية التي تحتم على جميع أطراف الأزمة اليمنية،أن يستوعبوها وأن يلتزموا بها ويحسبوا حسابها في هذه المرحلة، وفي مقدمتها الحفاظ على الوحدة اليمنية وعدم السماح لكل المحاولات التي تهدف إلى تشظية البلدوالعودة بعقارب الساعة إلى الوراء، مشدداً على ضرورة تنفيذ المبادرة الخليجية وأليتها التنفيذية المزمنة، واصفاً الإضافات على مقررات مؤتمر الحوارالوطني، كقانون العزل السياسي بأنها غير مقبولة.. لم يأت هذا الخطاب من فراغ وإنما من إدراك عميق بحجم التحديات والمخاطر وحجم المؤامرات التي تحاك خلف الكواليس التي تسعى لعرقلة مخرجات مؤتمرالحوار الوطني والعودة بالأزمة إلى المربع الأول.. كثيرة هي الأسباب التي دعت الرئيس هادي الى أن يضع النقاط على الحروف في هذا التوقيت الحساس، وفي المقدمة فشل حكومة الوفاق الوطني وعدم الالتزام بتنفيذ المبادرة الخليجية والقرارات الرئاسية المتعلقة بهيكلة الجيش..
فلم تأتِ جريمة مستشفى العرضي بمجمع وزارة الدفاع،وما ارتبط بها من حيثيات ودوافع وحقائق وأبعاد مازالت في إطار البحث والتحقيق، إلا لترسخ هذه القناعات والمواقف، ولتؤكد عدم الاستعداد لتقديم المزيد من التنازلات التي لم تقابل إلا بمزيد من التعنت والتأزيم والتأمر الذي بات يستهدف حتى المؤتمر الشعبي العام كتنظيم سياسي له ثقله الجماهيري في الساحة، وكطرف أساسي في التسوية السياسية..
من هنا كان الاجتماع باللجنة العامة للمؤتمر له دلالاته المرحلية العميقة..
تُرى هل يستوعب المشترك وبالذات الإصلاح هذه الرسالة؟ أم أنه سيخرج في مظاهرات تطالب الرئيس هادي بالإستقالة من المؤتمر وتخييره إما الرئاسة وإما المؤتمر، وقد يضمنون ذلك من مقررات مؤتمر الحوار الوطني كخلط جديد للأوراق وتمييع القضايا والتنصل عن تنفيذ المخرجات لحل كافة قضايا البلاد وتحقيق الانتقال السلمي للسلطة.