عبدالرحمن مراد -
< ثمة علاقة تربطني بهذا الاسم، فقد تفتح وعيي على نقشه في مخيلة الأيام وكنت حينها لما أزل يافعاً تتعثر خطاي في صخور الطرق المؤدية الى المدرسة الوحيدة في قريتنا.
في نهاية عقد السعبينيات كان كل شيء في هذا الوطن يشي برائحة الدم ويغازل بارود القذائف، وكان كل الناس في ترقب وفي تربص وفي خوف وفي قلق، يد على زناد البندقية وأخرى على مقبض الجنبية والدخان يملأ سماء الوطن ويحجب الرؤية، وكانت القوى السياسية ذات الولاءات والانتماءات المتعددة تتحرك في سهول ونجاد هضاب وتلال اليمن بموجهات خارجية وتنفيذاً لأجندة إقليمية وعربية ودولية.. كان الوضع أكثر صعوبة وتعقيداً مما هو عليه الحال الآن، وكانت الثأرات السياسية هي الباعث الحقيقي وراء كل نشاط سياسي أو خطاب ثقافي أو منشور سياسي سري، لم يكن علي عبدالله صالح حينها مسنوداً من المجتمع الدولي ، بل كان المجتمع الدولي موزعاً على قوى تناوئه وتقف حجر عثرة في طريق النماء والاستقرار، وقد استطاع الرجل أن يتعايش مع رؤوس الثعابين السامة الى أن تمكن من مقاليدها والرقص على رؤوسها دون أن تتمكن من بثّ سمها في جسد الوطن حتى تنهار الدولة بل تمكنت بالفساد الذي ظل جسد الوطن يقاومه بالقدر الذي يحفظ قدرته على التعافي وعلى الاستقرار.
لم يؤثر عن علي عبدالله صالح يوماً ما أنه فرط في وحدة الأرض ووحدة الإنسان، بل يؤثر عنه أنه كان يتواجد في جبهات القتال كما كان يتواجد في جبهات التنمية، كان يحرص ما وسعه الجهد على الاستقرار ويفسح المجال للذين يقفون في مربع الخصومة له، كي يكونوا شركاء في البناء لا أعداء في الهدم، ولذلك في مطلع الثمانينيات لم يرغب في استمرار المواجهات مع الجبهة الوطنية التي كانت تقاتل في المناطق الوسطى بل جاء رموز وقيادات تلك الجبهة وتفاوض وتصالح معها من أجل الاستقرار، فكانوا شركاء واستوعب جل كادرهم في مؤسسات الدولة المدنية والأمنية والعسكرية- وأعرف بعضهم ممن استقر بهم الحال في مناصب قيادية مهمة.
الثابت تاريخياً أن الجبهة كان لها حقائب وزارية وصدرت لها صحيفة ناطقة باسمها كانت تسمى صحيفة «الأمل» وأمام كل تلك التحديات والتعقيدات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية وهي تعقيدات تفوق تصوراتنا الذهنية لو أمكننا اسقاطها على الواقع الحالي، فاليمن حينها كانت شبه مشلولة اقتصادياً وما كان لها من أوعية إيرادية سوى الزكاة والجمارك وبعض الضرائب وكل تلك الأوعية لم تكن تلبي حاجات المجتمع بل حاجات الدولة في موازنتها التشغيلية فضلاً عن حاجات المجتمع، وكانت السعودية والكويت هما الدولتان اللتان تتحملان عبء الموازنة العامة للدولة اليمنية في شمال اليمن وفي الجزء الذي كان يحكمه علي عبدالله صالح، ولم يكن ذلك فضلاً منهما ولا منةً بل كان خوفاً من المد الشيوعي، فاليمن الشمالي حينها هو البرزخ الذي يفصل بين نظامين عالميين متصارعين حينها، وسقوطه في يد النظام الاشتراكي كان يعني تهديداً مباشراً لمصالح الرأسمالية العالمية في منطقة الخليج.
وبالرغم من كل التعقيدات والتشابكات في الوضع العام إلا أن جهود علي عبدالله صالح لم تن في التأسيس للدولة الحديثة، فالمجالس المحلية التي كانت حالة متطورة عن الهيئات التعاونية أصبحت تعبيراً عن الشراكة الشعبية في إدارة شؤون البلد، كما أن مجلس الشعب التأسيسي تطور وبشكل لافت للنظر الى مجلس الشورى وبصلاحيات أكبر، وتفاعل الشعب في الانتخابات النيابية في النصف الأخير من عقد الثمانينيات، والبناء على التراكم في التأسيس لمؤسسات الدولة كان يأخذ مساحة اهتمام واسعة، والمتفاعل مع حالات التأسيس للبناء والانتقال يدرك حجم الصعوبات التي كانت تقف في طريق الانتقال الى الدولة الحديثة، فالجديد باعث على الخوف دائماً، لذلك في كل مراحل التاريخ لا يمكن الانتقال الى الحالات الجديدة الا عن طريق التدرج، إذ لا يمكن القفز على حقائق الواقع الموضوعية بالحالات الصادمة الجديدة التي بالضرورة تهدد مصالح قوى اجتماعية أو ثقافية أو سياسية أو اقتصادية مما يبعث القلق والخوف في كونها النفسي ويعمل على تحفيزها لتكون في مواجهة الاشكال الجديدة، ومثل ذلك قد يهدد الاستقرار.
طوال عقد الثمانينيات بذل علي عبدالله صالح جهداً مضاعفاً في سبيل تحقيق الغايات الوطنية في تحقيق الاسس الاولى للدولة الحديثة، وكانت الصعوبات قاهرة وباعثة على التراجع واليأس ولكنه ظل مثابراً ومجاهداً ولا ينكر جهده في ذلك إلا مكابر، وقد لا يصدق أحد أنه وصل الى السلطة وكانت هناك جغرافيات متعددة في شمال اليمن لا تدين بالولاء الا للدولة المتوكلية اليمنية، وثمة حكايات متعددة في هذا الموضوع لا يتسع المقام لسردها هنا.
لم يكن علي عبدالله صالح شخصاً عابراً في التاريخ اليمني، بل كان رجلاً استثنائياً صنع تاريخاً وطنياً وعمل ما وسعه الجهد على التأسيس للدولة اليمنية في ظل ظروف وطنية وإقليمية ودولية بالغة التعقيد ولم تكن تصب في مصلحته، وكلنا يتذكر قراره التاريخي وهو يخوض جدلاً كبيراً ومجهداً مع القوى السياسية والاجتماعية في مجلس الشورى في مايو عام 90م حين اتخذ قرار التوحد مع جمهورية اليمن الديمقراطية، لم تكن المعارضة لمثل ذلك القرار بالأمر الهين ولا البسيط بل كان فوق مستوى التحديات وقد آل على نفسه خوض غمار المرحلة والانتصار للإرادة الشعبية، فكانت الوحدة اليمنية بمثابة الثورة الحقيقية التي أحدثت انتقالات متسارعة وهيأت المناخات الاجتماعية والسياسية والثقافية للوصول الى ذروة الحلم الوطني في الدولة المدنية الحديثة التي نأمل أن نشهد ولادتها الحقيقية تحت مناخ المرحلة الجديدة.
مثل تلك التداعيات قادتني اليها مواقف بعض القوى السياسية الوطنية المتربصة بالوطن والمساندة لحالات الفوضى والنكوص الحضاري سواءً أكانت تلك المواقف ضمنية أو علنية، ومواقف علي عبدالله صالح المساندة لوحدة الوطن واستقراره والقافزة على المصالح الحزبية والذاتية، وقد كان لجهوده الأثر الكبير في التخفيف من حدة الصراع في الجنوب، كما تحدثت عن ذلك قناة «عدن لايف».. ولعل القارئ الممعن لمجريات الحدث والمتأمل في رموزه وفي كل إشاراته يدرك أن ثمة قوى سياسية كانت تساند الهبة الشعبية في الجنوب وأكاد أجزم أن الباعث لها هو حلم الوصول الى السلطة إن لم يكن في الكل ففي الجزء، ولمثل تلك القوى أشباه من نظائر فهي لا تسعى الا الى السلطة وليكن التمزيق في جغرافيا الوطن طالما هو الطريق الى التمكين في الأرض.
ما يميز علي عبدالله صالح عن غيره أنه يعيش همّ الوطن ولديه قدرة عجيبة على التعامل مع الآخر، فهو يعيش حواراً دائماً منذ وصوله الى السلطة وحتى اللحظة التي نحن فيها مع كل الطيف السياسي والثقافي، ويؤثر عنه أن مقائله في زمن حكمه كانت عامرة بالمثقفين والأدباء من مختلف المشارب، ومثل ذلك هو سر قدرته على التأثير الساحر على الآخر.
لقد كان علي عبدالله صالح كبيراً وعظيماً في تأثيره وأثره شاء ذلك من شاء وغضب من غضب، فالتاريخ سيقف أمام فترة حكمه بكل إجلال وإكبار.
تحية لعلي عبدالله صالح الذي عمر قلبه بحب الوطن وتجرد من كل أمراض الذات، وفاق خصومه عملاً ووعياً وخلقاً.