عبدالرحمن مراد -
< شعر الناس بالهاوية التي وصل إليها الوطن، ولم يشعروا إلا بعد أن أصبح على شفا جرفٍ هار.. الذين أفسدوا من حيث كانوا أكثر ادعاءً وشعاراً بالإصلاح هم من يتحمل المسؤولية التاريخية عن حالة الانهيار في المفهوم وفي القيم وعن الدماء المسالة وفقدان القيمة الوطنية وفقدان المعنى وتشظي الهوية، وهم المسؤولون عن حالة الانقسام والشتات وغياب الدولة وقرب سقوطها- فهي ماتزال موجودة شكلاً بلا معنى أو قيمة- الذين تحدثوا عن «يمن جديد» أضاعوا بالضرورة «اليمن» كقيمة وكمعنى وكدولة وكجغرافيا وكتأريخ وكحضارة ولم يعد لدينا لا «يمن» «قديم» حتى يمكننا الحديث عن «اليمن الجديد».. لقد بَحَّتْ أصواتنا ونحن نقول إن الذهاب الى الثورة بدون مشروع إنما هو الضياع بعينه، والتيه بعينه، وها نحن نجني ثمار الفوضى وثمار السقوط، فالذين نادوا بسقوط النظام كانوا أكثر سقوطاً وأكثر انحداراً، لقد سقطوا قبل أن يسقط النظام وحين كشفت لنا الأيام عن غلالتهم لم تكشف إلا عن مضلل كاذب، وحالم طموح، وانتهازي متسلل، ورويبضة جاهل يتكلم في شؤون الجماهير وهو أكثر بعداً عنهم، وطامح في التمكين مخادع وكاذب، وانفصالي، وقاتل ومدمر ومفجر وإرهابي وعميل للأجهزة الاستخباراتية العالمية.
لم تكن اليمن -وهي الأم الرؤوم - بحاجة الى كل هذه الانهيارات النفسية والأخلاقية والقيمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والوطنية، لقد كانت بحاجة الى مبادرة (18) مارس التي أعلنها علي عبدالله صالح - الرئيس بداية الأزمة - من صالة 22 مايو، كانت بحاجة الى البناء والاصلاحات على التراكمات التي كانت موجودة، بيد أنّ الذين أخذتهم العزة بالإثم الى مربعات الغرور والسقوط، آثروا هذا التشظي في الجغرافيا والانقسامات في الوطنية، آثروا هذا الفراغ النفسي والحضاري والتأريخي الذي لم يتمكنوا من ملئه، آثروا هذا السيلان المستمر للدم اليمني في كل ربوع الجغرافيا اليمنية، آثروا هذا الانفلات الأمني والتدمير الممنهج للمؤسسة العسكرية، آثروا فقدان القيمة الوطنية وارتموا في أحضان وثيقة بنعمر كرؤية استخباراتية هدفها بقاء حالة الصراع من خلال حالة التمايز في المواطنة والألغام القابلة للانفجار مع أول حالة ضغط نفسي أو اجتماعي أو سياسي.
لقد كان نظام الرئيس علي عبدالله صالح أكثر وطنيةً من الذين كانوا يزايدون بها عليه، وكان أكثر حرصاً على مقدرات هذا الوطن وعلى قيمته وعلى معناه، ومن كان فاسداً، أو مارس الفساد في زمن الرئيس علي عبدالله صالح يرعوي فالحياء والخجل يمنعانه من الاستمرار، أما الآن فقد أصبح الفساد ظاهرة أخلاقية تمارس بكل بجاحة وباعتراف أحد قيادات اللقاء المشترك وهو أمين عام الاشتراكي - والتوصيف للحالة له طبعاً- وما كان في حكم النادر ومن المثالب أصبح الآن حالة سلوكية بامتياز، فالمواطنة المتساوية لا تتجاوز الانتماء الحزبي وما دون ذلك لا يمكن التفاعل مع الحقوق، والتمكين لا يكون إلا وفق أجندة واضحة ودعائية وفي الغالب تكون تلك الدعائية منكسرة عند التجربة الأولى لها.
لقد أظهر معارضو الرئيس علي عبدالله صالح محاسنه ونظامه وزادوه علواً وسمواً، ولم يسقط علي عبدالله صالح وما سقط نظامه بل هم من سقطوا أخلاقياً وقيمياً وسياسياً وثقافياً وجماهيرياً وكان سقوطهم مدوياً واللعنات تلاحقهم، وظل علي عبدالله صالح رمزاً وطنياً تتفاعل معه كل الفعاليات الاجتماعية في حين وجدناهم في عزلة ثقافية وعزلة اجتماعية، وجماهيرية لم يعد من أحد يرغب في الوصول اليهم، أو التحدث معهم، بعد أن ظهرت صفقاتهم المشبوهة مع أجهزة الاستخبارات العالمية من خلال وثيقة بنعمر التي كانت تعبيراً عن رؤية واعية وممنهجة لتلك المؤسسات العالمية بهدف بقاء الهيمنة، واستمرار المصالح المرسلة، فالذين وقّعوا على تلك الوثيقة أضافوا الى سجلاتهم دليلاً آخر على صلتهم بتلك الأجهزة وعلى تفاعلهم الجاد مع أجندتها وفق صفقات سياسية ربما ستظهر في المستقبل القريب.
أما الذين اعترضوا فلم يعترضوا حباً في اليمن - ما خلا المؤتمر الشعبي العام- بل حباً في التمكين لهم، فالاشتراكي كان اعتراضه خوفاً من تمزق الجنوب وليس خوفاً من تمزق اليمن، فلديه حلم العودة، والناصري رفض تحت تأثير الخاصية الذهنية في التذكر والتجميع، وحزب الرشاد من باب الحرص على وحدة الصف، والمؤتمر - مع تحفظي على تباين قياداته في الموقف- من باب كونه التعبير الأمثل عن الضمير الوطني ولكونه الحزب أو التنظيم اليمني الوحيد من حيث النشأة والفكرة.. وكل تيار له مبرراته الذاتية وليس الموضوعية والوطنية في كليّتها وليس في جزئيتها.
أشعر أنّ اليمن في لحظتها الجديدة تنشد في ضمائرنا اليمن.. فهل من مدّكر؟!