عبدالرحمن مراد -
أصبحنا نعيش زمناً جديداً، تعدد فيه الواحد ليصبح أكثر من واحد، وتعددت فيه الكيانات لتصبح أكثر من كيان، وتبعاً لذلك التعدد في الواحد تعدد المفهوم ليصبح أكثر شمولاً وأكثر اتساعاً فضيق المفهوم وانحصاره لم يعد مقبولاً في واقع يعيش تموجاً ثقافياً منفتحاً على الكون المعرفي وعلى الأبعاد الفلسفية للعولمة، لذلك فالقول بالبقاء في النقاط المضيئة للماضي فناء وفناء مضاعف، والذين واقعون تحت تأثير المتغيرات الجديدة لن تسعفهم هول اللحظة ودهشتها من التقاط الأنفاس والدخول في دائرة الوعي بالمتغير، فالإيقاع أكثر سرعة ويسير بسرعة البرق، ومواكبة ذلك الإيقاع لن يكون إلا بالتهيئة النفسية والثقافية والأخلاقية لضرورات الزمن المتسارع الجديد، وحين ينغلق الفرد أو الجماعة أو الحزب في المحددات الثقافية والأخلاقية التي أنتجها الماضي،
فتلك المقدمة المنطقية ستكون هي الشعور بالاغتراب والشعور بالغياب كنتيجة منطقية في الزمن الآتي من بين غيوم الغيب.
فالثورات تحدث تبدلاً في شكل العلاقة بين الدولة والمؤسسات الاجتماعية والثقافية وبين فرق وطوائف المجتمع، فالتبدل والتغيير من خاصية الثورات والهزات الاجتماعية العنيفة التي حدثت في دول ما يسمى بالربيع العربي، ولذلك لا تكفُّ الأخبار في تناولاتها اليومية عن الحديث عن دول الربيع العربي، فالتدافع الذي يحدث هو صراع بين ماضٍ يتشبث بالوجود وحاضر متبدل يرغب في الوجود، ومثل ذلك التدافع من سنن الله في كونه ويحدث خوف الفساد وخوف الجمود وتبعاً لذلك التدافع تتمايز الناس الى جماعات وأحزاب، ويحدث أن يطغى الأقوى ويستبد، والطغيان والاستبداد من طبائع المنتصر في أيّ تجمع بشري ولن تحدّ منه الا الفنون التي تجهد في تكثيف موضوعها في صناعة حيوات وبحيث تجعل من فردية الفرد كليّة فهي عن طريق الفن تعمل على زيادة الوعي باللحظة والوعي بالذات في إطار المجموع الوطني أو الإقليمي أو العالمي.
وبرز في الآونة الأخيرة الحديث عن التطورات الاجتماعية والثقافية وجدلية الاندماج الاجتماعي والاندماج السياسي للجماعات والأحزاب والطوائف، ولايزال العقل الاجتماعي والعقل الفلسفي يخوض في تفاصيل الحركة الاجتماعية التي تعيد إنتاج نفسها من خلال الاشتغال على التفكيك في البنى التقليدية وذلك بحثاً عن وسائل مثلى لدعم ثقافة التسامح وقبول الآخر والاعتراف بوجوده والتعايش معه واحترام معتقداته وثقافته، ولعل البحث عن تلك العلاقات الشكلية بين مكونات المجتمع المختلفة والدولة وفق المفهوم الجديد الذي أفرزته وتفرزه حركة المجتمع يقود الى الحديث عن دمج كل الفرق والجماعات والأحزاب في إطار المفهوم الجامع الشامل الذي تستظله عبارة «المواطنة المتساوية».
ولعل إشباع مفهوم «المواطنة» تنظيراً وجدلاً وتكثيفاً وتشريعاً وممارسة هو الباب الذي نلج منه الى البناء الصحيح في توطيد الروابط الاجتماعية، والمشاركة في النشاط الاجتماعي المتنوع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وبحيث نصل الى حقيقة الاستقرار والشعور بالوجود لكل أطياف المجتمع ومكونه العام، فالتعدد ظاهرة محمودة تمنع الاستبداد وتحد من الطغيان من خلال التدافع الصامت الذي يحدث بين مؤسسات الدولة المختلفة وبين المؤسسات المدنية والذي يحدث بشكل غير مباشر وبصورة بينية، فالفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية يعمل على تفعيل خاصية التدافع الصامت من خلال المواجهة والاحتكاك بين السلطات، فالسلطات الثلاث تحتك وتتضاد مع الأخرى وبما يفضي الى القول ان الدولة من خلال تعدد سلطاتها ستحدّ الدولة.
ذلك أن السلطة في ظل التعدد والتنوع وفي ظل الأنظمة الديمقراطية الحديثة لها شكلان، شكل داخل الدولة والآخر خارجها، فالسلطة داخل الدولة كما يرى ذلك فقهاء القانون هي للقانون، فالدولة تكون طرفاً دستورياً محايداً، ومسؤولو الصف الأول لن يكونوا الا موظفين ترتبط سلطتهم بالقانون وبالفترة الزمنية التي ينص عليها الدستور وبحيث لن يكون بوسع أي جماعة أو حزب أو طائفة أن يتجاوزوا ذلك السقف الزمني.
أما الشكل الذي خارج الدولة فيتمثل في إعادة توزيع السلطة النفوذ بالطريقة التي تحفظ التوازن بين المجتمع الرسمي -أي مجتمع الدولة- وبين المجتمع المدني من أحزاب ونقابات ومراكز ومراجع دينية، وهذا الشكل يخلق لحظته المتفاعلة مع الزمن ويحد من الصراع ويقلل من ظواهر الطغيان والاستبداد والفساد وبما يتوافق مع المصالح المرسلة للجماعات والكتل التاريخية التي تعمل حركة المجتمع على خلقها في لحظات التحول والتبدل.
وكما قلنا آنفاً - في السياق- أن المفهوم يتغير تبعاً لما هو كائن من حركة وتغير وتبدل وتعدد، فالوعي الاجتماعي كان في زمن ما قبل 2011م ضحية تعسف رسمي متعدد الجوانب والآليات، عمل على إخضاع مشاعر الناس وعقولهم على التصور بأن مفهوم الدولة لا يتجاوز الهيمنة السياسية ومجموعة الرموز التي يخضعون لها كالرئيس والوزير والمحافظ والشيخ، ولكنه ومن خلال ما نشهده من حركة بدأ يعي وبدأ يقرأ الفروق اللازمة بين مفهوم «سلطة الدولة» و«دولة السلطة»، فسلطة الدولة تعني أن جميع أجهزة الحكم فيها من مؤسسات ودستور وقوانين وقيادات تعمل في منظومة متكاملة لتحقيق الغايات الوطنية.. ودولة السلطة تعني أن أجهزة الدولة ومؤسساتها وأدواتها القانونية والدستورية تعمل في منظومة واحدة لتحقيق مصالح السلطة الحاكمة، ويصبح الوطن وثرواته ومواطنوه ملكاً لها.
وطبقاً لما سبق نذهب الى القول: إن ما يحدث في واقعنا هو عملية انتقالية وتبدل في المفهم، ومثل ذلك يضعا في مواجهة زمن جديد يتوجب التفاعل مع متغيرات مظاهره العامة.