محمد علي عناش -
< محمد سالم باسندوة رئيس حكومة الوفاق الوطني خلال المرحلة الانتقالية التي استبشر الناس بها خيراً لإخراج البلاد من أزمتها ومعالجة الكثير من المشاكل والقضايا الوطنية، لكنها تحولت على يديه أو رغماً عنه الى حكومة فساد ونفاق، والى مرحلة انتقامية تجاوزت المبادرات وانحرفت بالأهداف والغايات، وداست على اللوائح والقوانين وهيبة الدولة، وبقدر ما استنزف فاسدوها مقدرات الوطن، استنزف مجرموها أيضاً دماء وأرواح جنود رجالات الوطن الشرفاء.
لماذا كل هذا الانحدار والتدهور المريع؟ ولماذا وصلنا الى هذا الوضع السيئ؟ الذي صرنا جميعاً نتباكى فيه كلاً بطريقته، نحن نتحسر على وضع كان أفضل وعلى دولة فقدناها، لم تكن تحتاج إلا الى مزيد من الإصلاحات البنيوية الكفيلة بتحويلها الى دولة ديمقراطية حديثة، تمتلك كل مقومات التطور والنهضة، وشباب الثورة يتباكون ويتحسرون أيضاً على ثورة سُرقت، وأحلام تبخرت وتطلعات خابت، وعلى وطن صار وضعه بهذا الشكل.
أصابع الاتهام باتت تتحرك إلى أكثر من جهة وأكثر من طرف، لكن بتركيز شديد باتجاه باسندوة، أحد أهم رموز الفشل في هذه المرحلة، وإحدى غلطات المشترك التي ستظل ترتبط به في ذاكرة جيل كامل عايش الأزمة بكل فصولها وتفاصيلها، وأهم فصولها هنا الرجل الذي لم يملأ موقعه كرئيس وزراء بحنكة ومسؤولية، وكرجل أول في الحكومة الوفاقية، وإنما ملأه ضجيجاً وفساداً وسفريات وبكاء.
قد يكون ليس من الإنصاف تحميل الرجل وحده وزر المرحلة، ونترك بقية قوى الفساد والتأزيم والتآمر على السلطة.. هذا صحيح، لكن الرجل كان هو أداة هذه القوى في تمرير فسادهم وتأزيمهم للوضع وانقلابهم بالتسوية السياسية، وهو الذي من موقعه ميَّع المرحلة ورحَّل القضايا وأضاف أعباءً إضافية، وهو من موقعه أفقد الدولة هيبتها واللوائح والقوانين احترامها، وقبل كل شيء نحن لا نتكلم عن شخص هامشي في الأزمة ولا مسؤول بسيط فيها، نحن نتكلم عن رئيس حكومة انتقالية لم يؤكد أداؤه خلال أكثر من سنتين أنه ينتمي الى حلف الشعب والوطن والتغيير والمؤمنين ببناء الدولة الحديثة، وإنما الى حلف أولاد الأحمر وعلي محسن وتطلعاتهم الانقلابية على السلطة.
كان الأجدر بالمشترك أن لا يقذف الى هذا الموقع في هذه المرحلة الحساسة، رجلاً غريب الأطوار، أشبه بالكاهن- كما وصفه الاستاذ محمد أنعم رئيس تحرير «الميثاق»، ربما أنهم لم يكونوا جادين في التسوية ولم يرتقوا الى مستوى المرحلة، وما تفترضه من معايير وشروط ومصداقية وموضوعية، كي يضعوا الرجل المناسب في المكان المناسب.
دونما أسباب تُذكر غادر باسندوة الى خارج الوطن، لا أحد يعلم بالضبط الى أين، سوى ما قيل إنه الى الإمارات حتى أنه لم يستأذن من رئيس الجمهورية كنظام وبروتوكول يجب أن يتقيد به، الأمر الذي يوحي لك أن الأمور في هذه البلاد تجري بشكل غير طبيعي بشكل فوضوي، يعكس حجم المعاناة التي يكابدها رئيس الجمهورية عبدربه منصور هادي، وحجم الأعباء والمشاكل التي يتحملها في صمت، هل الأمر هو امتداد لفقدان هيبة الدولة؟ أم هي حالة سياب متفشية في حكومة الوفاق الوطني، التي يستحق أن نسمي الكثير من وزرائها، بوزراء المهجر، كون مجموع الأيام التي يقضونها خارج البلاد أكثر بكثير من أيام تواجدهم في الداخل؟ أم أنه مزاج باسندوة العالي المسنود بمزاج أولاد الأحمر وعلي محسن وقيادات الإصلاح، هو من يفقد الدولة هيبتها، ويعكس نفسه في شكل سياب يتفشى في مفاصل الدولة وأجهزتها المختلفة، كجزء من تفاصيل وجوانب معركة التأزيم والتآمر على السلطة التي يخوضونها ضد هادي، والتي بلغت ذروتها في ساحة محافظة إب، بين محافظ المحافظة القاضي أحمد الحجري، الذي يعتبر في موقف دفاع عن الدولة وهيبتها والنظام والقانون وضد سياسة التأزيم والاقصاء والسيطرة، وبين باسندوة الذي يريد أن يحولها الى قطاعات ومؤسسات حزبية.
نحن بحاجة أن نفض الغبار عن كنه الرجل العجوز الذي عاصر جميع الأنظمة الجمهورية في اليمن، وحظي بالقبول والرضا لديها، ومر منها سالماً الى محطته الأخيرة في الحصبة ومعسكر الفرقة.. يقال إنه بدأ مشواره السياسي في صفوف حركة القوميين العرب، إلا أنه وباستقراء دقيق لسيرته الذاتية الحقيقية، ذات تاريخ ضئيل وهامشي في تاريخ الحركة الوطنية شمالاً وجنوباً، وبصمته في هذا الجانب غير واضحة المعالم وغير متزنة، فليس هناك ما يؤكد ماركسيته ولا بعثيته ولا ناصريته ولا حتى تدينه سوى تلك العلامة السوداء التي ظهرت مؤخراً على جبهته، ربما هذا يفسر أنه يكاد يكون الرجل الوحيد الذي احتل مواقع ومناصب متعددة لدى جميع الأنظمة التي تعاقبت على حكم اليمن بعد الثورة في الشمال والجنوب، لا أعتقد أن الرجل كان قاسماً مشتركاً لدى الجميع الى هذه الدرجة من الإجماع من قبل الأنظمة المتناقضة والانقلابية، ليسجل التاريخ له مشواراً غرائبياً عمره خمسين سنة، يختزل بداخله الصورة الحقيقية له، التي لم تكن تحتاج إلا للقليل من التنفيض وإزاحة الغبار عنها كي تظهر جلية منذ وقت مبكر أو على الأقل في هذه المرحلة الوفاقية والتي بالطبع كانت تحتاج الى شخص غير باسندوة، هذا المشوار الذي بدأه بين أحضان الماركسيين واختتمه مع تحالف علي محسن وأولاد الأحمر، وإنما اعتقد أن الرجل كانت لديه قدرة فائقة على تسويق نفسه والترويج لها عند هذه الأنظمة والقوى، وقدرة كبيرة على التخفي والنفاذ، والبقاء في الظل ثم الخروج سالماً من كل الصراعات التي خاضتها هذه الأنظمة الانقلابية في اليمن، وهو البلد الذي شهد أكثر الاغتيالات لرؤسائه.
ميزة محطته الأخيرة في هذه الرحلة والتي تورط فيها وانكشفت حقيقته، انها تزامنت مع حدث ثوري شبابي، تمكن من امتطائه والاتكاء عليه، وكعادته في كل محطة، أنه لا يبحث عن الجوهر والمضمون، ولا تعنيه عملياً الشعارات الوطنية التي دائماً ما يرددها ويعبر عنها شعراً ونثراً ودموعاً، غير أنها في الحقيقة مجرد مثاليات لديه، شواهدها حالة الإنفاق البذخي بملايين الدولارات على نثرياته وتنقلاته والأبراج العقارية التي مايزال يعليها، في الوقت الذي يعتصم على باب بيته الكثير من جرحى الثورة من الشباب الذين قدموا أنفسهم قرابين لهذا الغول الحاكم.
لذا لم تكن تعنيه طبيعة المرحلة ولا مضمون الحدث الذي يتمثل في الشباب وتطلعاتهم في التغيير، فهو أول من نكث عهوده لهم، وأكثر من افتقد الرزانة في لقاءاته معهم، وإنما كان يعنيه الطرف الأقوى في المعادلة الثورية، والذي يوفر له الحماية ضمن علاقة مصالح متبادلة، فكان حلف علي محسن وأولاد الأحمر، فارتمى في أحضان هذا الحلف والذين بدورهم قفزوا به، بقوة نفوذهم إلى أحزاب المشترك، إلى موقع رئيس الوزراء في حكومة طبيعتها وفاقية دون معايير ومواصفات مرحلية حقيقية لملء هذا الموقع، وهي مواصفات ومعايير الكفاءة والنزاهة والرجل الحكيم والشجاع، وإنما معايير ومواصفات التابع والمنفذ أو العبد والسيد.
كثيراً ما كان يحاول أن يظهر في خطاباته انتماءه للشباب وأحلامهم، عبر مزيد من الدموع والبكاء، هذه الحالة التي تكررت معه كثيراً، لكن دون أن يكون هناك أدنى مؤشر لصدقها، ودون أن يحقق للوطن أدنى انفراج ولا لتطلعات الشباب وأهدافهم أي مردود أو نتيجة إيجابية، وإنما العكس تماماً، حيث توالت خيباته ومراوغاته وفساده وتبعيته المطلقة لهذه القوى المتخلفة والانتهازية، وبدأت تتكشف الصورة الحقيقية لهذا الرجل، والتي اكتملت في البيان الذي أصدره ضد محافظ محافظة إب القاضي احمد الحجري والذي احتوى على أكثر من ثلاثين شتيمة وسباً واتهاماً.
هذا البيان الذي لا يمكن أن يصدر من أية حكومة طبيعية، لكنه مولود مشوه لهذه الحكومة التي جاءت نتاجاً لما يسمى بالثورة، هو ابن هذه المرحلة المتداعية التي مايزال لها بقايا وجود في الساحات تهتف بـ«ثورتنا مستمرة»، هو ابن هذا المزاج العالي لباسندوة في الداخل، وهو العالي في التضليل والدوس على اللوائح والقوانين، والفساد، والعنترة على أوامر وتوجيهات رئيس الجمهورية، لكنه في نفس الوقت هو المزاج هابط المعيارية في الخارج، الذي ينحني لصغار أمراء النفط ويقبّل أياديهم بطريقة مشينة.. وكل الطرق تؤدي الى روما.. فقدان هيبة الدولة في الداخل والخارج على يد رجل عجوز نسميه رئيس حكومة الجمهورية اليمنية، لكنه بالنسبة للآخرين خارج الحدود مجازاً ليس إلا..
صدّقوني أن هذه الرحلة الغرائبية لباسندوة سوف تنتهي بطلبه لحق اللجوء السياسي، وهو يبحث الآن عن المكان الذي يوفر له المناخ الآمن لاستثماراته ولحمايته من الملاحقة والاستدعاء.