< عبدالرحمن مراد -
< تحت هذا العنوان كنت قد كتبت في العدد (1561) الصادر بتاريخ 2011/6/26م مقالاً طويلاً تحدثت فيه عن ثلاثة خيارات قد تصل اليها القوى السياسية التي ذهبت الى خيار الثورة وقلت حينها إن خيارهم الأول الاستسلام والاعتراف بالهزيمة والإذعان لشروط وإملاءات الخصم وهم بذلك قد يضعون أنفسهم موضع المشكك في القدرة الذاتية والطاقة الكامنة في العمق النفسي للأنا وتبعاً لذلك قد ينصرفون عن التفكير ويكتفون بالانبهار والدهشة من المنتصر وقد يلتمسون الحلول عنده لكل أشكال ومظاهر الأزمة التي صنعوها،
والخيار الثاني - كما تضمنه المقال في ذلك الحين- هو أن تعيش تلك الأطراف حالة انكفائية الى البنى التقليدية ومن خلالها تنظم مقاومة مسلحة غير متكافئة، وقد يصاحب تلك المقاومة انسحاب من الزمن المعرفي المعاصر وانكفاء في شكل احتجاج سلبي الى الذاكرة التاريخية ومن خلال تلك الحالة الانكفائية ذات المرجعية الماضوية تحدد وعيها بالعالم وبالآخر، أما الخيار الثالث فهو التكيف مع حقائق الواقع تكيفاً إيجابياً ومن خلال حالة التكيف يتمكن من استنهاض عناصر القوة في الذات من أجل توظيفها في مرحلة تصحيح حالة الضعف.
وقد يدرك المتابع الحصيف لمجمل المتواليات الحديثة للفعل السياسي اليمني أن كل الاطراف لم تخرج عن أطر تلك الخيارات أو المحددات الموضوعية التي تحدثت عنها في يونيو عام 2011م، فبعض أطراف العملية السياسية اكتفت من بهرج الحدث في 2011م بالانبهار والدهشة وشعرت بعدم القدرة على المقاومة، فانصرفت عن التفكير في المشروع القادر على إخراج اليمن من أزمتها التي صنعتها وحاولت أن تلتمس ذلك عند المؤتمر الشعبي العام، فهي ترى فيه تعويضاً عن نكوصها وغياب مشروعها وتجد في النظام القديم تبريراً لفشلها، ولعلها غفلت عن قولها بسقوط الايديولوجيا في بداية الفوضى العارمة في 2011م وما تلاها.
وبعض تلك الأطراف كالإصلاح عاد الى البنية الاجتماعية التقليدية والبنية العسكرية والثقافية وحاول تنظيم مقاومة مسلحة فلم يكن حظه منها الا السقوط فقد سقط في كل جبهات القتال بدءاً من دماج ومروراً بحاشد وانتهاءً بعمران، وكان صريع نرجسية قاتلة وخلال كل حروبه التي مرت حتى الآن رأينا انسحاباً من الزمن المعرفي المعاصر وانكفأ في شكل احتجاج سلبي على الذاكرة التاريخية، فقال بدفاعه عن الجمهورية وقال بعودة الإمامة ومن خلال تلك المرجعية الماضوية حاول تحديد وعيه بكل شيء حوله واستهدف الرئيس في خطابه الاعلامي وحاول بكل وسيلة إشراك الجيش في حروب عبثية محاولاً في السياق ذاته تصدير خطاب مقاوم يضخّم ويعظّم من القدرات، وفي السياق ذاته نجد المؤتمر الشعبي تكيف مع حقائق الواقع في 2011م تكيفاً إيجابياً بحيث تحاشى دائرة الاستسلام أو دائرة الانجرار الى الانتحار كما حدث لبقية التنظيمات في تونس ومصر وليبيا وتمكن من تنظيم مقاومة مدنية وسياسية وعرف مكامن الضعف عند خصومه واستنهض عناصر القوة في ذاته من أجل تصحيح حالة الضعف التي وصل اليها بعد أن تكالبت عليه أطراف العملية السياسية في الساحات والميادين العامة وقد ساعده في ذلك دهاء الزعيم علي عبدالله صالح وطول مراسه وحنكته في التفاعل والتعاطي مع الأحداث.
وأمام تلك الحالات التي أفرزت بالتوازي ثلاث حالات شعورية هي «الدونية، الخوف، الندية» نجد غموضاً وركوداً في الصيغة السياسية التفاعلية، فالأطراف التي شعرت بالدونية ذهبت الى خاصيتي التجميع والتذكير والبعض الى التنظير تعويضاً لشعورها السلبي المنكسر ووجدنا قيادات تلك الأطراف في حالة استنفار لبناء أمجاد ذاتية والآخر هرب من استحقاق اللحظة السياسية الجديدة بمبررات مختلفة.
والذين شعروا بالخوف خاضوا حروباً في جبهات متعددة وأحدثوا قلقاً وتوتراً أمنياً، ومثل ذلك أفقدهم قيمتهم، إذ وقعوا في المتناقضات ولم تكن ثنائيات الموقف والخطاب الا تأكيد السقوط في المتواليات التي صاحبت حركتهم وانكساراتهم، وحين حاولوا إعادة جمعة الساحات لم يدركوا أن زمنهم المعرفي كان منسحباً الى زمن قد تجاوزته اللحظة الجديدة، وحين خاطبوا الرئيس قائلين انتخبناك رئيساً لا شيخاً لم يدركوا أنهم لم يعودوا رقماً صعباً في المعادلة السياسية وحين أعلنوا القبول بالسجل الانتخابي القديم أحرقوا آخر ورقة سياسية بيدهم ظلوا يزايدون عليها زمناً طويلاً.
ووحده المؤتمر ظل يعيش حالة شعورية متوازنة كما أن خصومه عملوا على تحسين صورته عند جماهير الشعب فلم يكن تفاعلهم مع الحالة الثورية التي جاءوا الكراسي على أجنحتها تفاعلاً إيجابياً، فوزير المالية استحضرته الذاكرة الشعبية في ثنائية المعارض والحاكم، واليدومي استحضرته الذاكرة الشعبية في قضايا شتى ومنها السجل الانتخابي وغير كل ذلك، ولم تكن المقارنة إلا احتراقاً إضافياً للقوى التي قالت بسقوط الايديولوجيا فسقطت هي مع أيديولوجيتها واحترقت سياسياً وجماهيرياً.
وزبدة القول إن ضبابية المشهد وغموضه وعدم وضوح معالمه المستقبلية وتشظي القوى والأطراف السياسية بين الخيارات المنطقية والحالات الشعورية التي رمزنا إليها في السياق، تجعلنا في ترقب وانتظار قادم ستبدو لنا معالمه في قادم الأيام، فالأيام حبلى بالمفاجآت، وطبيعة حركة التاريخ وقانونه يبشران بغد أفضل.