عبدالرحمن مراد -
تذهب الناس مذاهب شتى في تأويل وتفسير ما يحدث وفي اسلوب التعاطي معه، ويبدو أن صمت الرئيس في حالات كثيرة لا يبدو مبرراً في ظل صراع الزعامات، وما هو غافل عن ذهن الرئيس أن الهضبة الشمالية التي تمتد من يريم الى صعدة تختلف عن بقية بقاع اليمن، فإذا كانت الجهات الجغرافية الجنوبية مع امتداد الجهات الغربية أكثر ميلاً الى الصمت والتدبر والاستغراق في الملكوت وفي الذات العليا ولا تحبذ الضجيج والخطابات المملة، فإن سكان الهضبة يستغرقون ذواتهم في ضجيج الزامل و«المهيد»..
لذلك تجدهم أكثر ميلاً الى القيادات الناطقة ومثل تلك الخصوصية أدركها الرئيس السابق، فكان اشتغاله عليها من عوامل البقاء وتمتين الاصطفاف الجماهيري وهي خصيصة غير مرغوبة ومستنكرة في الجهات الجنوبية والغربية، وقد سمعت ذات مرة من أحد الأكاديميين نقداً لاذعاً لها وحاولت حينها - وكنت في المهرة طبعاً- تبرير الخصائص الثقافية عند سكان الهضبة وخضنا في ذلك جدلاً واسعاً، ووقتئذٍ كنت من أولئك الذين يناهضون السياسة التي يسلكها الرئيس السابق ونظامه، ولم يمنعني الشنآن حينها من الإنصاف وقول ما أظنه صائباً.
ويبدو أن الرئيس عبدربه منصور هادي لم يفطن الى مثل هذه المقومات الثقافية، لذلك كان صمته تجاه كل الأحداث التي مرت بالوطن في الآونة الأخيرة وخاصة ما حدث في عمران فراغاً ملأته بعض القيادات لتبدو في نظر جماهير الشعب قيادات قوية وشجاعة تملك روح المبادرة وتسيطر على مفردات اللحظة السياسية.
اليمن كما هي طبيعته في كل حقب التاريخ له خصوصيته والتعامل مع تلك الخصوصية يتطلب قدراً وافراً من الذكاء، فالتعدد سمة ظاهرة في بناءاته الثقافية والتمايز واضح جلي في بناءاته الاجتماعية، وإدارة اليمن في ظل حال التعدد والتمايز ليس بالأمر السهل، والقوة في البنية الثقافية من مقومات الانقياد، ولذلك ظلت هي المعيارية الثابتة منذ ملكة سبأ وحتى اللحظة، ومعيارية القوة منظومة متكاملة ومتضادة أدركها الفكر اليمني وعمل على تفصيلها وبيانها، فكانت أربع عشرة صفة لابد لها من التوافر في الحاكم أو القائد ومثل تلك الصفات لم تكن حالة اعتباطية بل كانت ضرورة سياسية أوحى بها واقع الحال اليمني والصراع الذي ظل ديدن هذا الانسان منذ حدوث حالة الانقطاع الحضاري والتي أرى أنها تعود الى زمن الملك ذي نواس الحميري الذي فضل الغرق في البحر على البقاء والاعتراف بهزيمة جيشه أمام الاكسوم.
المعضلة في البناءات الثقافية الوطنية إذ أنها لا تتعامل مع هذا الإرث الثقافي الا برؤية انتقاصية قد تقلل من المعنى والقيمة ووقعت ضحية مقولات تاريخية ذات أبعاد سياسية تركها الصراع بين الإمام علي كرم الله وجهه وبين معاوية وظل الأمر متداولاً الى أن وصل عند الدكتور طه حسين، فلم يزدنا ذلك الضلال الا بعداً واغتراباً وتقليلاً وانتقاصاً من قيمتنا وفاعليتنا، ولذلك أدعو دائماً الى إعادة تنمية الذات اليمنية والاعتراف بقيمتها والاعتناء بها وتفجير الطاقات الكامنة فيها في صورة معرفية قادرة على النهوض، فالذات هي مكمن القوة ولا يمكن لليمن النهوض بالمشاريع المغتربة، وقد خضنا التجربة على مدى أكثر من خمسين عاماً من الفشل في صياغة مشروع وطني ناهض ولم نكن إلا أدوات صراع لمشاريع لا تمت الى البنية الحضارية والثقافية اليمنية بصلة.
في ظني أن السؤال الحضاري والثقافي يطرح نفسه في كل لحظة ولكنه يظل سؤالاً مغيباً لا يجد له أذهاناً تبحث عن إجابته في التفاصيل اليومية أو بين سطور الكلمات وأوراق الكتب ولعله خلال ما مضى من أيام كان أكثر ظهوراً ولم يفطن اليه أحد.
لقد كتبت منشوراً على رواق صفحتي في شبكة التواصل الاجتماعي «فيس بوك» قلت فيه إن عجز الرئيس وصمته يصنعان زعامات تتجاوزه وهو ما حدث، فالوسائط الإعلامية تفاعلت مع مبادرة وقف الحرب في عمران التي أعلنها زعيم الحوثيين بصورة تجاوزت الرئيس ووجدت في مضمون الكلمة التي تحدث بها عبدالملك الحوثي تعبيراً عن مكنونات نفسية تجدها ولا تحسن التعبير عنها، كما نجد في المقابل صحيفة «أخبار اليوم» ترسل الإشارات والرموز على ألسنة تقول إنها تابعة للحراك الجنوبي وهي تسعى جاهدة إلى مخاطبة الرئيس بإشارات مبطنة لم تعد خافية على أحد.. وما تداولته صحيفة «الشارع» الصادرة يوم السبت 2014/6/7م عززت في الذاكرة الجماهيرية تلك الصورة النمطية التي تكونت خلال العامين الماضيين عن الرئيس ولم يتمكن من تغييرها.. ثمة ظروف ومناخات تهيأت للرئيس كي يحدث تغييراً في نمطية الصورة ولم يفعل.. وسأظل أكرر على مسمع الرئيس.. الصمت يصنع زعامات تتجاوزك، وليس من مصلحة اليمن تعدد الزعامات في راهنها.. فانتصر لوطنك.