أحمد مهدي سالم -
< تصدمُ وتخترق سمعك بين الفينة والأخرى، مفردةٌ.. تنزل كالمطر الشديد الهاطل.. هي كلمة باطل بما تحمله من إشارات الى ضياع الحق أوتغييبه أو اغتياله أو إضعافه.
الحق ينزوي أو يتوارى، ويحرق قلوب الحيارى، والباطل يتبختر ويتبارى ويسير في الأرض الربيعية مرحاً.. لا يجارى، وعلى رأسه.. أمارة، ولا يزداد إلا عتواً واستكباراً.
القهر، الظلم، الحرمان، الإذلال، التركيع، النهب، القمع، سفك الدم المحرم وكل مترادفاتها القاهدة، الكابحة، الضاغطة.. تصب في مجرى نهر الباطل الذي بدأ يشمخ، وتتضخم أناه.. في غير تمهل وأناة.. وتجري فتجرف الحق، الصدق، الوفاء، المروءة، ومختلف مشتقاتها.. أول ما تفتح ذهني على هذه الكلمة.. في صباي ويناعتي في قول شاعر شعبي:
كلما خرجنا من نكد ونّه تلقّانا نكد
وأن النكد من حيث ما رحنا وما جينا
عيال إنسانه.. ولد يقتل ولد
باطل من الدولة، وباطل من كلد
وقد اشتهرت الأزمة الأخيرة كمثل شعبي مع أن قبيلة كلد اليافعية تاريخها الحاضر متوهج وربما في فترة غابرة.. كانت مزعجة، ما عشناه خلال ثلاث سنوات غير ربيعية.. هو عين الباطل، ورأسه وجبينه وأنفه ولسانه وأنيابه، وهو باطل مختلف كثيراً عن سابقه، ولن يشابهه لاحقه.. هو يتدثر لبوس الحق..
باطل لا يماثل بل نتخيله كائناً مادياً يصرع الحق بضربةٍ قاضية فيسقطه متخبطاً في غيبوبته، والحكم بن عمر ينبطح، ويضرب أرض الحلبة بيده اليمنى ويعد.. عدّ الى الصباح.
تتسلل الآن الى ذاكرتي.. لازمة من مسلسل مصري عرض في الثمانينيات تقول:
«زواجك.. باطل يا هنيّه».. ترددها بحرقة الممثلة الجميلة صفاء أبو السعود للفنانة القديرة سميحة أيوب.
أما أشهر ما تستدعيه كلمة باطل في الذاكرة الجمعية القريبة.. صرخة (أبو عنتر: ناجي جبر)
..باطل.. «وهو الممثل السوري الراحل الذي نقش الكلمة على أعلى ساعده الأيمن».. أدواره.. قوة.. فتوة.. يكسرُ الطابور، يتآمر، ويهزئ أصحابه في المسلسلات مثل ياسين بقوش (ياسينو) وهو أيضاً ودعنا.. مقتولاً، بل شهيداً في الحرب السورية الدائرة حتى اليوم.
ومن باب توارد الخواطر.. في زيارتي الأولى لسوريا في صيف 1993م للعلاج والاستجمام دخلت لصاحب (باطل) مسرحية دويخة.. وفيها انتقاد مخفف للسلطة الدائخة المدوخة التي تدوّخ بالقعب وتفقده توازنه، وكالعادة.. في مثل هذه المناسبات.. التقطت صورة تذكارية معه.. يعني تصورت مع الباطل.. بس باطل مخفف ولطيف، وسبقت رفقة سعوديين وأردنيين الى القبض على لحظة ذكرى مع هامة شكلت علامة في تاريخ الدراما السورية، وكنت حاولت إجراء لقاء قصير أو تصريح.. فأخفقت.. لتأخر الوقت، وكثرة المعجبين فيما أفلحت مع زميله ياسين بقوش في مسرحية أخرى نجحت ونشرت المادة في صحيفة «الثورة» في 1993م، عذراً للقارئ فإن الذكريات تجرفني جرفاً خاصة ان كل الاماكن التي سكنت فيها او زرتها في دمشق واللاذقية خلال زيارتي الثانية في 2005م دمرت تدميراً كاملاً بسبب باطل اكذوبة ثورات الربيع العربي.
غصب عنا او ضعف منا صادقنا الباطل، ومشينا في ركابه، وبررنا اخطاءه او خطاياه، واسدلنا الستار على عيوبه واتهمنا الحق الغائب بالتغول والاذلال للثاني المتنمر على طريقة المثل الشعبي : «اذا ضرطت الحريوة.. ضربوا الكوبرة».
والكوبرة هي المرأة التي ترافق العروسة الى المخدع، وتساعدها على خلع الخارجي من ملابسها.
لاحظ الكم الهائل من البواطل التي لاتزال نتجرع غصتها ومرارتها.. انقطاع الكهرباء، القتل شبه اليومي، تفجير أنابيب النفط، الرعب المتجول، العنف اللفظي، الجرع، رفع الأسعار، إغلاق المصانع، وازدياد البطالة، تدمير البنى التحتية، انعدام المحروقات أو رفعها، تدهور الجانب الخدماتي، وتدني او هبوط المستوى التعليمي، محاربة الكفاءات، واحتضان الإمعات، كسر حاجز الاحترام، بناء حواجز قلة الادب، التحرش الجنسي بالفتيات، هتك اعراض الاطفال، دخول السلاح الى حياتنا الحضرية، تهم التخوين والتخويف والفجور في الخصومة، طغيان النزعة المادية الحادة في العلاقات، زيادة امراض الوساطات والمحسوبيات، والمناطقيات والجهويات، والاختطافات، والحرمان من أبسط المستحقات وكثرة الامراض والاوبئة، خاصة في المحافظات او المناطق التي شهدت حروباً طاحنة، وكل باطل يفوق الآخر.. هدمنا كل او جل ما بنيناه لنعود خمسين او ثمانين عاماً الى الخلف وكله بسبب احقاد غبية ونزوات سخيفة.. عندما يسند الامر الى غير أهله والنهل من كأس العمالة حتى الثمالة، أما آن الأوان لنتوقف عن طوفان الحقد الهادم وتلويث نقاء النفوس بالغاز العادم، ونلتقي في نقطة المشتركات، وهي كثيرة لنستعيد ارادة البناء وشيئاً من جسور الثقافة ومتانة العلاقات السابقة.. ونقول : كفى للحماقات والتهور.
لم نفقد الأمل بعد.. كون كوارث السد ستأتي على الجميع مالم يصحُ الجميع!!
إيماءات
امريكا والغرب عامة يرعون محاضن تفقيس بيوض الباطل بأبعادها المسلحة، أو بروافعها الثقافية.. ثم يدعون محاربتها..
آخر الكلام
قال تعالى : «ولاتلبسوا الحق بالباطل، وتكتموا الحق وأنتم تعلمون» (البقرة : 42)