نجيب غلاب -
أثبتت التجربة التاريخية للجمهورية أن بعض النخب المشائخية تتعامل مع القيمة والمبدأ والإنسان كأدوات.. أما السلطة والمال والنفوذ فهي الطموح النهائى..
(المجلس الوطني للتضامن) مشروع انتكاسة للتطورات السياسية في اليمن، وهو نتاج نزوع سلطوي مستبد، وتعبير عن حالة صراع مفضوحة على غنيمة الثروة والسلطة، وهذا المجلس في طبيعة تركيبته واهدافه الحقيقية متناقض مع الشعارات التي أسس لنفسه عليها، وهي شعارات مخادعة وتمويهية، لإخفاء طبيعته المتخلفة المتناقضة مع فكرة الدولة الحديثة وقيمها.
ولا يمكن فهم مجلس التضامن إلا من خلال استيعاب الأزمة العميقة التي تعيشها النخب القبلية في صراعها مع بعضها البعض سواء داخل القبيلة نفسها أو مع نخب القبائل الأخرى، وأيضا من خلال فهم طبيعة التناقض بين منطق القبيلة التاريخي، ومنطق النخب المتنورة في المجتمع المدني وداخل مؤسسات الدولة.
من الواضح أن النزاع على المواقع القيادية في الدولة والمجتمع بين النخب، بلغ أشده خلال الأعوام الماضية، وهو مرشح للتصاعد في المرحلة القادمة، كما ان تدفق الفكر الحر بين أبناء القبائل، ربما يزعزع مواقع النخب القبلية، لذا فهي بحاجة إلى أدوات جديدة للصراع، ولكنها تخلق أدواتها بعقلية تقليدية متخلفة، لا تخرج عن فلسفتها وفهمها للدولة كغنيمة، والقبيلة هي مرتكز النشاط والفاعلية، كما أنها تتحرك برؤى فكرية مشتتة، وتعتقد ان مجرد رفع شعارات متوائمة مع مطالب الجماهير ومنسجمة مع قيم الحداثة كافٍ لتتزعم الجماهير، كل شيء يتغير وهي ثابتة تتعامل مع الحدث بعقليتها التاريخية البالية.
بعض النخب المشائخية كما أثبتت التجربة التاريخية للجمهورية، تتعامل مع القيمة والمبدأ والانسان كأدوات، فالسلطة والمال والنفوذ هي الطموح النهائي، ما عدا ذلك شعارات مخادعة. فالانسان مثلا والذي يشكل القيمة الاولى وكل شيء في الحياة من أجل خدمته من ماديات وقيم يلاحظ أنه ليس من اهتمام الشيخ التقليدي، بل هو البندقية الكفيلة بتحقيق طموحه، ومقارنة بسيطة لوضع ابناء القبائل في المناطق التي مازال الشيخ هو صاحب القول الفصل وبين مناطق تحررت من عبودية الشيخ، وجعلت منه محل اجماع فيما يخدم مصالح ابناء القبيلة، لا مصالح الشيخ، تجعلنا ندرك الجريمة التي يديرها بعض المشائخ في تحويل ابناء القبيلة الى مرافقين وبيادق في صراعهم من اجل مصالحهم الانانية.
عموما هذه التجمعات القبلية التقليدية تجسد رغبة بعض الفئات المشائخية من الجيل الثاني، في فرض ذاتها بادوات القبيلة بصورتها البشعة والكريهة، والقائمة على العصبية والنخبوية بصورتها المتناقضة مع مصالح من تمثلهم، ومصالح الدولة المعبرة عن طموح المجتمع، وهذا السلوك دليل عجز عن استيعاب المتغيرات، ونتيجة خبرة ضعيفة، ونتاج تهور وجموح سلطوي، خصوصا في ظل هيمنة شعور لدى الجيل الثاني بالضعف، وربما التجاوز لصالح قوة الدولة المدنية وانصارها من الفئات الحديثة. (بعض هذه القوى الحديثة هم من أبناء المشائخ لكنهم غلبوا منطق الدولة وقيم الحداثة على منطق القبيلة التقليدي).
وفي تصوري أن التجمعات القبلية ذات النزوع السياسي، هي المحاولات الأخيرة لديها لإثبات نفسها بقوة الفعل المدني، بعد ان أصابتها الاختناقات داخل المؤسسات التقليدية للقبيلة(مع ملاحظة ان فشلها ربما يجعلها تلجأ للعنف والتخريب)، نتيجة التنافس بين المشائخ القدماء والجدد والاعيان الطموحين، وبروز قوى جديدة فاعلة من أبناء القبائل العاديين، وهذا هز القبيلة من الداخل وشتت قوتها، فالصراع على المواقع القيادية داخل القبيلة أضعف قوة المشائخ، وجعل شرعية وجود الشيخ مرتبطاً بالدولة، وجعل الشيخ قيادياً محلياً تابعاً لمنطق الدولة، وقوة بيد الحزب معارضاً أو حاكماً، ومن جانب آخر لم تعد القبيلة كافية لاشباع رغباتهم المتزايدة، فالدولة هي الجوهرة وعليه لابد من تعبئة القبيلة من أجل العروسة الكنز.
فالجيل الثاني ونتيجة توسع أعضائه وعدم قدرة القبيلة على تحمل طموحاتهم المتزايدة، يريد ان يخلق لنفسه قوة موازية تهدد الدولة وتضعف قوة المجتمع المدني الآخذ في النمو، ومن جهة آخرى فإن القبلية المحاصرة ببيئتها الداخلية في ظل فاعلية الدولة لم تعد مجدية في تحقيق الطموحات السلطوية فتم اللجوء إلى تحالفات مشائخية واسعة.
والتجمعات القبلية عادة ما كانت تخلق لها تحالفات محلية، ولكنها في المرحلة الراهنة بدأت تفكر بقوة قبلية تشمل الوطن كله، بحيث تكون عصبيتها واسعة وقادرة على هز عرش السلطة، ثم التقاطه في نهاية الأمر، ولا يهم ان ترتبط شرعية المجلس بجهة معينة من الوطن في مرحلة التأسيس، فهذا أمر مهم فالمؤسس هو العصبية الأم، وهي قابلة للتوسع لاحقا، بحيث يتم تجميع القوى القبلية التابعة فيما بعد، ليتم تركيز قوتها في المركز، لتتمحور القوة كلها في نهاية الأمر حول قطب مشائخي لن يتعدى أعضاؤه اصابع اليد الواحدة، والهدف النهائي من النشاط تحويل قوة القبيلة لصالح شخصيات بعينها، تدير من خلال تلك القوة صراعاً مع الدولة ومن يمثلها وتضعف المجتمع المدني ومن يمثله.. وهي في بداية الأمر ستركز على المطالبة بالشراكة في أكل الكعكة، ثم التخطيط لاحقا لابتلاعها في حالة استجابة القوى المشائخية لطموحات العصبية الجديدة التي يراد لها ان تنشأ مع ملاحظة ان ابتلاعها لن يكون ديمقراطيا على الاطلاق.
هذه النقلة النوعية في طبيعة العمل القبلي، نتيجة قناعة ولدتها التطورات لدى هذه التجمعات التقليدية ومن يدعمها، أن العمل من داخل القبيلة أصبح غير مجدٍ بفعل نمو وتطور المجتمع المدني، الذي اصبح له القوة والفاعلية في توظيف جزء من قوة القبيلة لصالحه، وهذا ولد خوفاً لدى النخب القبلية بعد ان ادركت ان الدولة والاحزاب ومؤسسات المجتمع المدني تتقدم بقوة في الفترة الأخيرة، واصبح ابناء القبائل الطموحون من اصحاب الفكر المتمدن يحققون طموحاتهم المشروعة داخل الدولة والمؤسسات الحديثة، وهذا منحهم قوة تجاوزت الشيخ في بعض المناطق بل ان الشيخ تحول إلى إداة لخدمة المتعلم الجديد.
ورغم ان بعض القوى الشابة الذكية من أبناء المشائخ داخل المؤسسة القبلية، ادركوا خطورة الأمر على مواقعهم فأخذوا يلعبون دوراً جديداً من داخل الاحزاب، فقد استطاع الشيخ حميد الاحمر مثلا بذكاء شديد ان يوظف قوة المشترك لصالح طموحاته الشخصية وهي طموحات مشروعة بالنسبة له، هذه التجربة فجرت طموحات الجيل الثاني من الشيوخ، ونتيجة العجز في توظيف قوة المجتمع المدني لصالح طموحاتهم فإنهم يحاولون خلق تكوينات بديلة يتم من خلالها تفعيل قوة القبيلة بمنطق القبيلة التقليدي وهنا مكمن فشلهم.
ولابد في هذا السياق من الاشارة الى ان القوى المدنية مازالت ضعيفة، وتتعامل بسذاجة مع القبيلة ومنطقها، فالمشترك بنخبه المتنورة خصوصا اليسارية منها وقعت في فخ القبيلة، بتحويل قيادي في حزب الاصلاح إلى قيادي رئيس وبشكل ضمني للمشترك، واقناع الاسلامويين لهم انهم نصبوا الفخ لمراكز القوى من خلال تفعيل قوة القبيلة لتقاوم هيمنة الحاكم، يمثل غباء فكرياً وسياسياً وجهلاً للغة القبيلة.. ان دعم التكوينات التقليديه على مستوى الاشخاص والثقافة والفكر، يقودنا إلى عالم القبيلة بصورتها المرسومة بعقل الشيخ التقليدي، الذي يرى من القبيلة قوة قاهرة للدولة، وقنطرة ضرورية تسهل له أكل الكعكة، بقوة القبيلة التي هي بدورها في حقيقة الامر بأعضائها مظلومة ومنتهكة في عزتها لصالح قوى مشائخية لا همَّ لها سوى مصالحها الانانية.
وخلاصة القول ان المجلس الوطني للتضامن بنية تقليدية متخلفة، لا معنى له في سياقات التطورات المدنية الحديثة، يراد له ان يكون مؤسسة مدنية، ولكنه مشحون بأهداف غير معلنة، متناقضة مع فكرة الدولة والمواطنة المتساوية، ولديه نزوع نخبوي وانحيازات مناطقية، وحتى عنصرية، وسيتحول إلى إداة بيد من يموله لتحقيق مصالحه، على حساب أبناء الشعب اليمني، ولذلك كله فمصيره الفشل..
وختاماً: هذه المقالة لا تستهدف أي شخص او جماعة، هي محاولة نقدية، تحاول تقويم مسار الفعل ليس إلا. وهي منحازة كليا للدولة اليمنية الحديثة وللقيم المدنية، وتبحث عن قبيلة تحمل قيم المعاصرة، وتتحرر من عادات وتقاليد بالية ستكون قاتلة للمجتمع والدولة في حال استمرارها في عصر لا ثبات فيه إلا للتغير والتحول الدائم، وهي ليست ضد الشيخ المتنور، وعندما يرفع الشيخ شعار الانسان اولاً واخيراً ويفهم متغيرات العصر عندئذ تصبح القبيلة قوة ردع للاستبداد، ويتحول شيخها إلى زعيم وطني بعقلية مدنية منفتحة على قيم الحداثة بمعناها الفكري لا مظاهرها الشكلية، وقتها سنناضل جميعنا مع من يعبر عن طموحنا.
❊ مدرس بقسم العلوم السياسية