الدكتور علي مطهر العثربي -
إن عمق الولاء لله ثم لقدسية التراب اليمني لا يمكن أن يترسخ ويتجدد إلاّ في الارادة الشعبية التي تنتج رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه، إرادة تستمد قوتها من الارادة الإلهية وترفض التبعية أياً كان شكلها أو نوعها، وتجعل من الولاء الوطني مبدأ مقدساً يحفظ لليمن سيادته ويعزز الوحدة الوطنية ويجسد المعاني المقدسة لحق الانتماء والوفاء لتراب الوطن اليمني الواحد والموحد ويدفع باتجاه بناء الدولة اليمنية القوية والقادرة والمقتدرة التي تمتلك القوة الاقتصادية والعسكرية والأمنية والسياسية والدبلوماسية والتقنية والمعنوية بما يجعلها قادرة على رسم السياسات القومية الاستراتيجية التي تحقق طموحات الارادة الكلية للدولة اليمنية الواحدة والموحدة التي ينشدها اليمنيون الأحرار الذين يحملون في فكرهم الاستراتيجي المشروع النهضوي العربي الواحد الذي يعيد للأمة العربية كرامتها ويحقق بناء الدولة العربية القادرة على حماية الكرامة الانسانية.
إن الأهداف الاستراتيجية الوطنية الكبرى لا يستطيع تحقيقها من يقبلون على أنفسهم الارتهان والتبعية لأي طرف خارجي مهما كان، ولا يستطيع تحقيق الطموحات الوطنية المشروعة من يرددون الشعارات الجوفاء التي لا تسمن ولا تغني من جوع بقدر ما تجلب الدمار والعار على الوحدة الوطنية، كما لا يستطيع تحقيق تلك الأهداف الوطنية الكبرى من يجعلون من الدين وسيلة لتحقيق أهدافهم النفعية والشخصية ولا من يستخدمون شعار الوطنية للتسلق على اكتاف البسطاء من الناس الذين تحركهم العاطفة الدينية والوطنية، بل ولا يستطيع تحقيق الآمال والطموحات الانسانية من يجعلون من شعارات القومية والاشتراكية والعالمية مجرد شعارات تدغدغ مشاعر البسطاء والعامة من الناس، ونحن إذ نقول ذلك ليس من باب المناكفة والنكاية والمزايدة التي قد يقولها البعض، ولكننا نقول ذلك من واقع التجربة الميدانية العملية للحياة السياسية التي قدمت بياناً عملياً ساطعاً لا يقبل المراوغة والزيف والبهتان على الاطلاق، وهذا البيان العملي الساطع لتجربة الحياة السياسية قدم نوعين من التجربة أحدهما أصيب بالفشل الذي لا يقبل الجد والآخر حقق القدر الكبير من أهدافه الوطنية والقومية ومثل الإرادة الشعبية الصلبة وجعل من نفسه فكراً وطنياً متجدداً تعلو به هامات الوطنيين الشرفاء والعظماء والنبلاء الذين نذروا حياتهم من أجل عز وشموخ اليمن الواحد والموحد.
وما دام الحديث عن التجربة الميدانية فإني أرى أن أبدأ بالحديث عن التجربة الفاشلة للأحزاب والقوى السياسية اليمنية قبل أن أتحدث عن تجربة المؤتمر الشعبي العام ونحن في ذكرى تأسيسه الثالثة والثلاثين من عهد الانجاز والتنمية، فتجربة القوى السياسية في اليمن تعد مدرسة لمعرفة الاخفاق واطرافه والنجاح وأطرافه على اعتبار أن التعددية السياسية في اليمن قديمة قدم التاريخ في الوطن العربي ويدرك ذلك رجال التاريخ والفكر الدستوري والنظم السياسية الذين أثبتت دراساتهم أن الوطن العربي قد فقد مفهوم الدولة وعاش في فترة اللادولة التي سميت بالجاهلية الأولى عقب انهيار الامبراطورية اليمنية الحميرية ثم استعادها عند بعثة رسول الله محمد «صلى الله عليه وسلم» عندما التف اليمنيون حوله لانشاء الامبراطورية الاسلامية، ولأن تجربة التعددية السياسية هي الأقدم في الوطن العربي فإنني سأكتفي بالحديث عن التعددية السياسية بشكل موجز لمرحلة الدولة اليمنية الرابعة التي جاءت عقب اعادة لحمة الوطن اليمني الواحد في 22 مايو 1990م وسيكون التركيز على تلك التجربة على فترة ما بعد الانتخابات الرئاسية في 2006م وما جاءت به أحداث 2011م والذي سنركز عليه في دراستنا القادمة.
إن دراسة تجربة التعددية الحزبية عبر مراحل التاريخ الطويل قد أفرزت حقيقة تاريخية غير قابلة للجدل مفادها أن القوى السياسية التي تنشأ في اليمن وتقبل بأن تكون ذيلاً لقوى خارجية تحقق أهداف تلك القوى لن يكتب لها النجاح على الاطلاق، وما دام التاريخ السياسي لليمن قد أثبت هذه الحقيقة فإن المفروض على القوى السياسية أن تقرأ التاريخ وتجارب الحياة السياسية وتفهم متغيراته وثوابته ثم تأخذ العظة والعبرة وتلتزم جادة الصواب، إلاّ أن القوى السياسية في الساحة اليمنية فيما عدا الحركة الوطنية لأحرار اليمن لم تدرس التاريخ ولم تستفد من عظاته وعبره، ومن ذلك ما حدث من نشوء الأحزاب في فترة الاستعمار البريطاني، حيث نشأت بعض الأحزاب على أساس الولاء لبريطانيا وبالمقابل ظهرت في المحافظات الشمالية من اليمن تيارات قومية وليبرالية واشتراكية ودينية وجميعها نشأت على أساس اعتبار الشعارات المرفوعة مجرد وسيلة لتحقيق غاية اختلفت من قوى الى أخرى وغلب عليها طابع ردة الفعل ومحاولة النكاية بالغير والارتباط بغير قدسية التراب الوطني فيما عدا تيار الحركة الوطنية لأحرار اليمن الذي كان يتعامل مع الأحداث بواقعية وانطلق من الارادة الشعبية التي استمدت قوتها من الارادة الإلهية وجعل من سيادة الوطن اليمني ووحدته واستقلاله اللبنة الأولى للانطلاق صوب الوحدة العربية الكبرى المشروع النهضوي الذي يكافح من أجل انجازه أحرار اليمن في كل مراحل التاريخ.
لقد عاشت القوى السياسية في صراع وإن كان شعار الوحدة اليمنية الذي استخدمته بعض القوى اليسارية لمجرد المزايدة والمكايدة وفرض الشروط قد حقق قدراً من وحدة الارادة الشعبية التي فرضتها الجماهير اليمنية على القوى السياسية المراوغة، إلاّ أن تيار الحركة الوطنية الذي انطلق من واقع الحياة اليمنية وقدسية التراب اليمني قد تمكن من دفع القوى السياسية بمساندة جماهير الشعب نحو الثورة اليمنية ضد الإمامة والاستعمار واستطاع فرض علم اليمن الواحد والموحد في الثورة اليمنية 26 سبتمبر 1962م و14 أكتوبر 1963م.. وكان لهذا النجاح أثره الكبير في بناء تيار وطني يرفض العمالة والارتهان ولا يقبل بالتبعية أياً كان شكلها أو نوعها، الأمر الذي دفع القوى الاستعمارية باتجاه التآمر على هذا التيار مع قوى اقليمية ومحلية وكان من نتائجه تأخير قيام الجمهورية اليمنية بما حدث عام 1967م من قيام شطرين لليمن الواحد.
إن تأخير قيام الجمهورية اليمنية الى 22 مايو 1990م كان بسبب تعالي أصوات القوى السياسية المدعومة من خارج التراب الوطني والتي قبلت على نفسها بالتبعية والارتهان رغم استمرار تلك القوى في استهلاك شعارات دينية ووطنية وقومية واشتراكية.. الخ، وهو ما دفع بتيار الحركة الوطنية الى التريث والتعقل والهدوء واللجوء الى مخاطبة الجماهير من أجل اعادة لحمة الوطن اليمني الواحد انطلاقاً من الأهداف الاستراتيجية لأهداف الثورة اليمنية «سبتمبر واكتوبر» وقد قاد كل ذلك الى اقتناص الفرصة الذهبية في اللحظة الكونية المناسبة في 22 مايو 1990م، حيث تمكن تيار الحركة الوطنية ممثلاً بالمؤتمر الشعبي العام من إعلان اعادة وحدة الوطن مع كل الخيرين والنبلاء والشرفاء من أبناء اليمن الواحد والموحد.
إن اقتناص الفرصة الذهبية واختيار اللحظة الكونية المناسبة لإعلان قيام الجمهورية اليمنية بالتفاف جماهيري لا نظير له قد حشر القوى السياسية القائمة على النفعية والولاء الخارجي ودفعها لوضع الشروط التعجيزية ومن ذلك اشتراط اقتران الوحدة بالتعددية السياسية كشعار لا كقيمة ومبادئ عملية ولم يكن أمام المؤتمر الشعبي العام الذي واجه المعارضة من كل القوى السياسية التي استخدمت الدين كوسيلة لتحقيق غاية شيطانية وقبلت بالولاءات الخارجية إلاّ القبول بذلك الاشتراط الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه للاستقطاب الحزبي المدعوم خارجياً.. ولأن تلك الأحزاب التي أعلنت عن تأسيس نفسها وجعلت من شعاراتها مجرد وسيلة وارتباطها الخارجي هو الغاية فقد مارست صنوفاً من الزور والبهتان والارتهان للغير وشكلت تكتلات مشبوهة منذ عام 1996م، وظلت تمارس الكذب بالشعارات الجوفاء التي خدعت بها البسطاء من الناس حتى جاءت أحداث 2011م التي اسفرت عن الوجه القبيح والقميئ لتلك القوى والتكتلات التي جعلت من الساحات والميادين لاعلان العمالة واطلقت نداءاتها لقوى العدوان والدمار لضرب مقدرات الدولة اليمنية ظناً منها بأن العدو الخارجي قادر على تركيع الارادة اليمنية الحرة، واستمر مسلسل الفشل الذي قاد كل القوى السياسية الاسلامية زوراً والقومية فجوراً والاشتراكية غدراً الى مؤتمر الرياض الأخير الذي التقت فيه كافة القوى لتعلن عن العمالة وزوال وسقوط شعاراتها الكاذبة.. تلك هي التجربة الفاشلة في الحياة السياسية اليمنية.
أما التجربة الثانية التي قدمتها تجارب الحياة السياسية فهي تجربة المؤتمر الشعبي العام الامتداد الطبيعي لتيار الحركة الوطنية الكبرى في اليمن الذي مثل الارادة الشعبية فقد نشأ واقعياً وانطلق من عمق التراب اليمني واستمد قوته من الارادة الشعبية المعتصمة بحبل الله المتين، حيث نشأ في 24 أغسطس 1982م بعد مراحل عدة من الإعداد والتهيئة وانجاز دليله النظري «الميثاق الوطني» بعد حوار دام أكثر من نصف عام واستفتاء شعبي مفتوح شكل سابقة تاريخية غير مسبوقة في تاريخ العمل السياسي، الأمر الذي جعله ارادة شعبية صلبة وفكر وطني متجدد جعل من الحوار قدره الذي لا يمكن التراجع عنه ومن الشراكة السياسية نهجه الذي لا يقبل الجدل، وفوق هذا وذاك جاء دليله النظري بمفهوم الولاء الوطني المقدس باعتباره ولاء لله ثم للوطن وهو ولاء مقدس لا يقبل التبعية أياً كان شكلها أو نوعها على الاطلاق، وجاءت تجربته العملية لتبرهن للعالم بأنه شعب جبار ذا بأس شديد يقف العظماء أمامه إجلالاً وإكباراً لقدسية ولائه لتراب اليمن الواحد والموحد، فقد برهنت الأحداث الكارثية من 2011م وحتى اليوم بأنه الارادة الشعبية الصلبة المتمسكة بحبل الله المتين ولم يجد الشعب من كل القوى السياسية سوى هذا التنظيم العملاق الذي انتصر لقدسية التراب اليمني وتحدى العواصف والغوغاء وأسقط كل الرهانات الخاسرة وعرى كل قوى الحقد والمكر والخيانة.
نعم ذلك المؤتمر الشعبي العام الذي واجه مكايد ومؤامرات القوى الظلامية في 2011م التي التقت تحت شعار اسقاط النظام خدمة للقوى الصهيونية العالمية، ولكم أن تتذكروا كيف ضحى المؤتمر الشعبي العام بالسلطة من أجل سلامة السيادة اليمنية وحقن الدماء الطاهرة، ولكم أن تتذكروا مؤامرات الموفمبيك فيما كان يعرف بمؤتمر الحوار الوطني وكيف صمد المؤتمر الشعبي العام ضد مشاريع التجزئة والتشطير، ولكم أن تقارنوا مواقف المؤتمر مع غيره من القوى السياسية بما فيها من الوطنيين والشرفاء الذين يقدرون مواقف المؤتمر الشعبي العام لأنه الوحيد الذي لا ارتباط خارجي له على الاطلاق، الأمر الذي ينبغي معه الاحتفاء بصدق المبادئ والوفاء بالعهود والالتزام بمفهوم الولاء الوطني المقدس والطموح المشروع في بناء الدولة اليمنية الحديثة على طريق المشروع الكبير «الوحدة العربية» التي لا بديل عنها مهما تآمر المعتدون ومهما رهنوا كرامتهم للغير فإن نضال اليمنيين دائم من أجل عزة الأمة العربية والاسلامية وهي ارادة لا تنازعها إرادة، وهي قوة لا تقهرها أية قوى لأنها تستمد النصر من الله الذي بيده كل شيء.. وكل عام والجميع بخير واليمن واحد وموحد بإذن الله.
شكر وتقدير
أتقدم بخالص الشكر وعظيم التقدير لكل من عزاني في وفاة والدتي تغمدها الله تعالى في واسع رحمته سواءً بالحضور من الأخوة رؤساء دوائر الأمانة العامة ونوابهم وموظفي الأمانة العامة واساتذة الجامعة أو عبر الاتصال الهاتفي وفي المقدمة الأخ الاستاذ عارف عوض الزوكا الأمين العام والأخ الشيخ يحيى علي الراعي الأمين العام المساعد والأخ الاستاذ ياسر العواضي الأمين العام المساعد والأخ الاستاذ محمد حسين العيدروس رئيس معهد الميثاق عضو اللجنة العامة والأخ الاستاذ يحيى دويد عضو اللجنة العامة والأخ الاستاذ محمد انعم رئيس تحرير صحيفة «الميثاق» عضو اللجنة الدائمة، وكل من تواصل معي من الداخل والخارج.. راجياً من الله العلي القدير أن لا يريكم مكروهاً وتقبل الله منا ومنكم جميعاً صالح الأعمال.