أمين الوائلي -
أحدهم اكتشف أن مياه البحر مالحة وأن الدولة تخطط لتزويد مدينة تعز من البحر الأحمر بما يغطي العجز ويؤمن حاجة السكان إلى المياه ويحل مشكلة المدينة مع المياه وهي مشكلة مزمنة ومعقدة وقد آن الأوان لإزالتها من على كاهل المواطنين والسلطة المحلية بحلول عملية واعتماداً على بدائل متاحة وإن كانت مكلفة.
صاحبنا هذا أهمل التفاصيل الأخرى على أهميتها وأضاف إلى قائمة الاحتجاجات التي استخدمت لدفع المواطنين للمشاركة في اعتصام دعت إليه المعارضة القول بأن الحكومة تهزأ بالمواطنين وسوف تجعلهم يشربون ماء البحر الذي تملأه الأملاح وتلوثه السفن وتفرغ فيه الأسماك حاجتها!!.
ولاندهاشه البالغ فقد تطوع أحد المواطنين لإفادة الرجل شيئاً عن محطات المعالجة وتحلية المياه لتصبح عذبه وصالحة للشرب والاستحمام وفرك الرؤوس. بالرغم من ذلك لم يقتنع وواصل تخويف الجيران من عوادم السفن وفضلات الأسماك مضافاً إليها الملح.. فهل يكون البديل عن العطش هو البحر وأي بحر البحر الأحمر أيضاً؟!.
أشياء كهذه نصادفها باستمرار وهي ما يفقد القضايا وجاهتها ويفسد المصداقية ويحول مسألة الاحتجاجات والتعبير عن الرأي إلى دائرة مغلقة ومعطوبة تماماً من جهة الاستغفال واستغباء الجمهور وحشد الكراهية تحت يافطة الحاجيات والمعاناة ومشاكل الناس اليومية.
لا أحد يستهين أو يقلل من أهمية ودلالة مظاهر السلوك والممارسة الديمقراطية كالاعتصامات والتظاهرات وغيرها إلا أن هذا شيء وأن تتحول إلى غاية بذاتها أو مشروع للكيد والتشفي وخديعة الجمهور شيء آخر تماماً.
ما يفقد النقاش مسئوليته ويميع القضايا ويسخر من حاجة الناس والمجتمع إلى حلول عملية ومعالجات جماعية ومشتركة هو الإمعان في تزوير المشكلات وتزييف الوعي الجماهيري والجماعي وسواء أكانت أطراف في المعارضة أو في الحكومة والسلطات المحلية أو في الصحافة هي من تقوم بذلك وتكابر دون الاعتراف بحقيقة ما عليه الواقع من إشكالات أو مجهودات في طريق الحل والمعالجة.. فإن الجميع لا يفعل خيراً ولا يبحث عن حلول حقيقية لمعاناة الناس ومصاعب الحياة وإنما يزيد الإشكال إشكالاً ويضع في طريق الحل حجر عثرة.
ليس الخوف من التظاهرات والاعتصامات فنحن مجتمع اخترنا طريق الديمقراطية وحرية الرأي وحرية التعبير عنه وكنا نعلم يقيناً أن الديمقراطية تكفل هذه الحقوق وتصونها بل وتشجع عليها كونها بديلاً حضارياً مأموناً عوضاً عن المؤامرات والعمل في الغرف المغلقة والسراديب المعتمة والعنف في التعبير عن المواقف والآراء والقناعات، إنما الخوف هو من تحويل هذه الامتيازات إلى أسواق نخاسة وسمسرة سياسية والانحراف بها عن المعنى الذي تأخذه في كتاب الديمقراطية إلى معنى آخر لم يرو في كتاب.
والخوف أيضاً نابع من الغائية التي يكرسها البعض في مثل هذه الخيارات المدنية المتاحة فالتظاهر وما في مستواه يغدو غاية كاملة وهدفاً نهائياً. لا إنه وسيلة واحدة متاحة الهدف منها حفز انتباه وعناية المؤسسات التنفيذية وتذكير السلطة المحلية والمركزية بقضايا وإشكالات موجودة وتسبب معاناة زائدة للناس والسكان حتى يمكن الالتفات إليها ومباشرة جهد مشترك لحلها والتخفيف من معاناة الناس جراءها.
وفي كل حال تبقى مثل هذه الظواهر والتحركات شهادة فعلية تزكي واقع الحرية والتعددية في البلاد وإذا كانت المعارضة تهدف من خلال فعاليات وتحركات كهذه إلى استخدام حق كفله القانون ومزاولة نشاط ضمنه النص الدستوري فلا يجب أن يصبح الحق حجة لغمط الحقيقة ونكرانها كما لا يليق بكيانات مدنية كالأحزاب أن تندفع في تحريض وحشد المواطنين بالاعتماد على مشروعية الحق الديمقراطي في الوقت الذي تفرط بواجبها في تقديم بدائل ومقترحات وتفسيرات لمجمل المشاكل التي تطرحها وتجلد الناس بمرارتها صباح مساء. فالحق مقرون بالواجب ولا ينتظر المجتمع من الأحزاب أن تذكره بالعلة لأنه أدرى بها وبمعاناتها أكثر من الأحزاب. بل وعليها أيضاً أن تقول له هذه هي البدائل والحلول فإما أن تقبلها الحكومة وتأخذ بها لمعالجة المشكلة القائمة، وإما أن تصبح الأحزاب هذه جاهزة لأخذ مكانها وكسب ثقة الناخبين، بموجبها.
الذي نراه ونعايشه هو بخلاف ذلك فالبدائل غائبة والبرامج منعدمة وكل ما هو حاصل لا يكفي للقول بأن المعارضة جادة في رفض المشاكل فضلاً عن رغبتها في محاصرتها وحلها.
تتحول المشاكل في حالات كهذه إلى مساحة تضمن للأحزاب التفرغ لتصفية الحسابات والثأرات بطرق مختلفة لا تتورع في ابتزاز المعاناة اليومية للمواطنين والمتاجرة بها لهدف بعيد لا يتحرى كبح المعاناة بل مفاقمتها ومناجزة الخصوم، وهكذا تتحول الأحزاب إلى متاريس والقضايا إلى بنادق.. ويتحول الرعية إلى معابر ذخيرة.. وليست هذه هي الديمقراطية.