بقلم/أ.د/ عبدالعزيز صالح بن حبتور - قليلون هم الساسة من الرجال الذين يُحدثون مثل ذلك الصخب الإعلامي الهائل حينما يعيشون وينشطون وحتى وهم يغادرون هذه الحياة الفانية مكرهون إلى دنيا الخلود، والدكتور / عبدالكريم الأرياني أحد هؤلاء الرجال الكبار الذين تركوا بصمة واضحة في سماء اليمن وأرضها، وذلك لاعتبارات تاريخية وسياسية وثقافية متعددة ، فالرجل رسم اسمه بإتقان على جدارية اليمن الطبيعية العريضة و رصعها بأعمال كفيلة بتخليده كقائدٍ مجربٍ بسمعة محترمة في داخل اليمن وفي العالم.
تفرد الدكتور الأرياني بشخصية مميزة طوال تاريخ حياته كلها وأنتهج المذهب الواقعي في حياته الأكاديمية و السياسية والمهنية ، وأصطف إلى جانب السياسيين الذين يمقتون التطرف والغلو والمزايدة اليسارية واليمينية، القومية والدينية معاً ، لإدراكه إن وعورة الطريق التنموي في اليمن لاتصلح معها إلا الاعتدال والوسطية السياسية في التنظير والتطبيق ، وماعداها ماهو إلا حلم طوباوي نرجسي يستحيل تنفيذه في الواقع اليمني بتضاريسه المعقدة ، وأثبت الواقع والتجربة الممتدة من الثورة إلى الأزمة الحالية نجاعة منهجه السياسي (دون الخوض في موقفه السياسي الأخير من العدوان السعودي وشركائه) على اليمن أرضاً وتاريخاً وإنساناً ، مع علمي اليقين انه في الآونة الأخيرة طالب بشدة إيقاف الحرب بشكل فوري بعد أن فاض كيل العدوان في القصف الوحشي على المواطنين اليمنيين وهم في أعراسهم أو مصانعهم أو بجانب قواربهم أو أثناء تسوقهم، أو أثناء تنقلاتهم، أو في بيوتهم الآمنة فزاد ذلك من اقتناعه أن الحرب عبثية ومجرمة ويجب إيقافها في الحال والدخول في حوار الفرقاء ولكن القيادات المستفيدة من أطالت أمد الحرب لم تتجاوب معه ولم تأبه لاستشارته ورأيه ومضى في الانزواء الاختياري بالقاهرة .
تعرفت عليه في مطلع التسعينات وبالذات بعد عودتي من الدراسة بالخارج وعن طريق عددٍ من الأصدقاء وزرته مراراً بمنزله العامر بالعاصمة صنعاء وفي كل زيارة نقوم بها نشعر بأننا نستزيد منه علماً وتجربة، وتوثقت العلاقة بيننا حينما تكررت زياراتي له بشكل رسمي وشخصي في أثناء عملنا القيادي بجامعة عدن وكان حينها رئيسا للوزراء إذ سهل بتوجيهاته الجريئة العديد من الإجراءات المتصلة بجامعة عدن ستظل تلك القرارات شاهدا على نموذج متفرد في القيادة وفي حسم القضايا لصالح المؤسسات الحكومية العامة ، وتواصلت علاقتنا معه حينما كان أميناً عاماً ونائباً لرئيس المؤتمر الشعبي العام في القضايا التنظيمية والنشاط الحزبي ولأنه كان يحضى بالثقة الكاملة من قبل الرئيس/ علي عبدالله صالح رئيس المؤتمر ونائبه آنذاك ، هادي ،
كنا نصل إليه بسهولة في مكتبه أو منزله لأنه قيادي محترف وقائد جذاب يعرف أهمية التواصل التنظيمي أولاً بأول.
وفي أثناء الأزمة السياسية التي عصفت باليمن عام 2011م كان تواصلنا معه مستمرا ويكاد يكون شبه يومي عبر كل وسائل الاتصال، لأنه قيادي موثوق وحكيم وآرائه وازنة مرجحة و كانت مواقفه السياسية ثابتة وصُلبة مع الشرعية الدستورية، لم يتوانى في الوقوف بحزم إلى جانبها والثبات مع موقف المؤتمر الشعبي العام في أثناء فترة هيجان الشباب العفوية التي خرجت في مسيرات صاخبة وكانت تبحث لها عن أمل لمستقبلها الفردي والجماعي وترفع شعارات التغيير ببساطة مفرطة متناسين إن هناك (مقاولين محترفين) لسرقة نتائج أي تغيير أو (ثوره) في المجتمع اليمني وغيره فهؤلاء هم من أصبح بمرتبة الفخامة، والسيادة، والمعالي، والقائد الهُمام وسعادة السفير، هؤلاء وحدهم من استفاد من ذلك التغيير التدميري، إما الوطن والمواطن فقد خسروا كل ما حققوه طيلة خمسة عقود ونيف والشباب ذهبوا ضحية مجانية لعبث المتآمرين مخططي ماتسمى بثورات الربيع العربي الذي سرعان ما تحول إلى خريف مستمر.
والأرياني كان لي شرف عظيم أن رافقته قرابة عام ونصف تقريباً في نشاط سياسي مكثف وهو العمل معاً باللجنة الفنية التحضيرية وبعدها بمؤتمر الحوار الوطني الشامل، ويتذكر معي الزميلات والزملاء ممن زاملنا بفترة الحوار كيف كان فكره السياسي وتجربته المتراكمة في حل عقد وتعقيدات التحديات الضخمة التي كادت أن تعصف بالحوار وكل وثائقه لولا تدخلاته المناسبة والحكيمة، أتذكر في عجالة سريعة كيف استطاع أن يقود بهمة وكفاءة عالية هذا الحوار الاستثنائي المعقد ونجح.
● أمتاز بهدوء عجيب وهو يدير أعنف الجلسات الصاخبة بين الأعضاء ويسعى لتهدئة الموقف الناشئ عن هذا التوتر والانفعال ، وما أكثرها
● حاول أن يوفق بمهنية سياسية قل نظيرها بين الآراء المتناقضة والمتصارعة بين مجاميع وتيارات جاءت على الطاولة للحوار بعد عداء مستفحل دام أعوام.
● على الرغم انه كان الرجل الثالث بالمؤتمر الشعبي العام إلا انه وطيلة زمن الحوار لم يميل إلى توجهاته وقراراته التنظيمية بل كان يقف على الحياد باعتباره رئيس اللجنة التحضيرية، وهذا المواقف بطبيعة الحال لم نكن نتفق معه مطلقاً.
● رجل من أوفى وأصدق الرجال للوطن اليمني العظيم ولتاريخه السياسي والفكري الممتد قرابة نصف قرن من الزمان وللمؤتمر الشعبي العام باعتباره أحد أهم مؤسسيه الفكريين مع المؤسس الأول للمؤتمر الزعيم/ علي عبدالله صالح ، ولهذا كان أول المشاركين في مراسم جنازته الحزينة مقدم واجب العزاء لأسرة الأرياني ولكل محبيه رحمة الله عليه.
إن الشخصيات الاستثنائية من القادة، ينشأؤون ويعيشون ويعملون ويموتون وهم كبار، والأرياني رحمة الله عليه مهما كتب الكتاب والشعراء والمؤرخون لن يوفوه حقه لأنه قيمة كبيرة لليمن حياً أو ميتاً و لتخليد ذكراه على مدى الأجيال المتلاحقة على الدولة اليمنية القادمة، أن تؤسس جامعة حكومية علمية محترمة باسمه متخصصة في علوم " الاقتصاد والإدارة والفكر السياسي"، كونه قدم خدماته الجليلة لليمن في هذا المجال والاختصاص وشغل العديد من المناصب السياسية المهمة كرئيس لجامعة صنعاء عند سنوات التأسيس ووزير للتخطيط والتنمية والخارجية ورئاسة الوزراء ولعب أدواراً مهمة في السياسة الحزبية اليمنية لنصف قرن خلت.
وبعد انتهاء العدوان وتوقف آلة الدمار يتم اقتراح ذلك الأمر إكراماً لدوره الإنساني وتاريخه الحافل.
رحم الله فقيد اليمن الكبير أ. د/ عبدالكريم بن علي بن يحيى الأرياني وأسكنه الله فسيح جناته وألهم أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان ..إنا لله وإنا إليه راجعون،
ونتقدم لأبنائه الكرام وبناته الكريمات وآل الأرياني جميعاً بخالص العزاء والمواساة في فقيدهم الغالي وفقيد الوطن ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أ. د/ عبدالعزيز صالح بن حبتور
رئيس جامعة عدن
محافظ محافظة عدن السابق
|