أ.د/ عبدالعزيز صالح بن حبتور -
تحولت مدينة عدن بعد ان اجتاحها الغُزاة من دول العدوان على اليمن بقيادة المملكة العربية السعودية الى ساحة مفرغة من النظام والقانون وأضحت ملعباً فسيحاً لتصفية الحسابات والأحقاد المتراكمة بين الخصوم الأعداء منذ عقود من الزمان كإرث مقيت مُرَحَّل من زمن التنظيم السياسي للجبهة القومية ووريثتها الوحيدة الحزب الاشتراكي اليمني سيئ السمعة، إذ أَخذت الأحداث منحى درامياً مُفزعاً ومُرعباً خَرَج عن سيطرة كل الأطراف المتناحرة في مدينة عدن وضواحيها ، إذ لم نعد نسمع أية أخبار قادمة من عدن سوى ما يتصل منها بالاغتيالات المميتة ، أو محاولة الاغتيالات الفاشلة، أو الاختطافات للأكاديميين والشخصيات العامة، أو التفجيرات المُرعبة وغيرها من المآسي التي تتوالد بشكل يومي في ظل غياب شبه كلي لأجهزة الأمن ومؤسساتها العديدة ، وغياب كلي لقوات مايسمى دول التحالف العربي التي جاءت (لتحرير) عدن وإظهارها كأنموذج عصري قادم يشبه الى حدٍ كبير مدينة دبي او المنامة او الدوحة او طنجة، ونتذكر معاً حجم الإسراف والسخاء بالوعود المضللة للمواطن البسيط في عدن وحوطة لحج وزنجبار وضواحيها بهذه الأوهام من أحلام اليقظة لبناء دولة النظام والقانون التي روجوا لها إعلامياً ودلسوا بها على الجميع ونقلوا كل هذه الأمنيات وحملوها معهم الى عدن على ظهور دبابات الهامفي والإبرامز والهامر.
لكن فجأة استيقظ المواطن البسيط الطيب على هول الصدمة المُرعبة بأن كل هذه الوعود المعروضة له بسخاء قد تبخّرت بل تحولت الى نكتة وتندُّر لدى المواطن العدني الذي ردد تساؤلاته حول ماحدث ويحدث وتحولت كل الوعود الى كابوس طويل من كل هذه التفجيرات والاقتتال والخطف والتهديد والتهجير والاغتيالات بالجملة وكان آخر هذا المسلسل الدامي الحزين استشهاد الصديقين العزيزين اللواء/ عبدربه حسين الإسرائيلي والعميد/ جعبل علوي أمراس، وفضيلة الشيخ/ عبدالرحمن العدني رحمة الله عليهم وأسكنهم الفردوس الأعلى كشهداء أبرار وألهم أهلهم وذويهم وأصدقاءهم ومريديهم الصبر والسلوان..
إنا لله وانا اليه راجعون.. «وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» صدق الله العظيم.
تعالوا لنفتش معاً عن الأسباب الموضوعية التي أدت الى حدوث هذا الفراغ الأمني المخيف بالمدينة وضواحيها ومانتج عنه من مترتبات متوالية في حدوث كل تلك الجرائم لمدينتنا المسالمة عدن ومواطنيها البسطاء الذين تجرعوا ويلات زمن مابعد "التحرير" لمدينتهم ويشعرون الآن بأسى وحزن عميقين وهم يرنون الى مدينتهم وهي تغرق تدريجياً في دوامة عنف لا نهائية وبالنتيجة النهائية تبخرت معها كل الأحلام والتنبؤات التي رسموها في مخيلاتهم لمستقبلهم ومستقبل أجيالهم القادمة:-
أولاً:-
علينا الاعتراف جميعاً بأن الأزمة السياسية التي نشأت بداياتها الأولى في العام2011م وحتى هذه اللحظة في العام 2016م هي أزمة سياسية بحتة ولن تُحل إلا بالعودة للعملية السياسية الجادة على طاولة الحوار وان أوهام الحل ستأتي بواسطة القوة العسكرية والأمنية، هي تجربة أظهرت الحرب العدوانية الممتدة لأكثر من 340 يوماً فشلها الذريع ، وليس هناك خيار آخر للحل سوى العودة للحوار وإيقاف العدوان ورفع الحصار الجائر على اليمن.
ثانياً: -
الحرب منذ بدايتها أوقعت طرفي النزاع المسلح في مصيدة التكتيكات المُميتة وهي أخطاء قاتلة بحسب الخبراء والمحللين الاستراتيجيين : -
(أ) حينما جرت الاستعدادات والتحضيرات من قبل السلطة المحلية بعدن لمواجهة ومنازلة أنصار الله ولجانه الشعبية القادمة الى عدن عن طريق محافظة تعز تم تشكيل جبهة عريضة سُميت حينها بـ(جبهة المقاومة) ضمت القوى الآتية: اللجان الشعبية القادمة من محافظة ابين، ومجاميع الحراك الجنوبي المسلح، وبقايا الجنود من وحدات الجيش والأمن وهم بأعداد محدودة، وتنظيمي القاعدة وداعش والسلفيين وتشكيلات شباب الاخوان المسلمين (تجمع الإصلاح اليمني) والمجاميع المسلحة غير المُهيكلة في أُطر وتجمعات منظمة.
وحينما ساقني القدر لترؤس اللجنة الأمنية بمدينة عدن كررت مراراً تحفظي واعتراضي على وجود هذا اللفيف غير المتجانس من المسلحين والأخطر هم مسلحو تنظيمي القاعدة وداعش ولكن البعض من الزملاء باللجنة الأمنية كان يتبرم من طرحنا لمثل هذه الاعتراضات بحجة انني أضخّم من حجم الصورة وسجلت هذا الموقف للتاريخ، ومع بدء العدوان تغير الموقف كلياً باعتبار ان الوطن كله يتعرض لحرب عدوانية شاملة.
وللتذكير فإن وسائل إعلام دول العدوان وحلفائه بالداخل يكررون القول على مدار الساعة بأن من يقاتل بالجبهات هم المقاومة الشعبية والجيش الوطني فحسب ، وان هناك خلايا نائمة صغيرة يحركها عفاش والحوثي تعمل على إقلاق الأمن والسكينة ، ولأن حبل الكذب قصير فقد نشرت قناة الـ (BBC ) البريطانية بتاريخ 22 فبراير2016م في أحد تقاريرها من إحدى جبهات المواجهة القتالية في محافظة تعز وبالصوت والصورة اشتراك مقاتلي تنظيم القاعدة وربما مقاتلي داعش في القتال مع جيش التحالف العدواني على اليمن ، وأوردت هذا الخبر للتدليل على حجم المغالطة الإعلامية الهائلة للقنوات الفضائية لدول العدوان (كالجزيرة والعربيه والعربية الحدث ومشتقاتها من القنوات الممولة بالمال الخليجي المسموم) ، وهناك فريق من "المتعلمين" لايصدقون أية معلومة إلا من مصادر إعلامية غربية باعتبارها مصادر محايدة ولذلك أوردنا المعلومة لهؤلاء ومن على شاكلتهم.
(ب) كل المجاميع المسلحة المؤتلفة والمتحالفة مع الجيوش العربية بقيادة السعودية لمقاتلة الجيش اليمني واللجان الشعبية، تقاتل تحت رايات وأعلام متناقضة بعداء واضح، ولكلٍّ أجندته الخاصة لما بعد انتهاء المواجهات الحربية ولا يجمعهم جامع سوى مقاتلة الجيش اليمني واللجان الشعبية كما أسلفنا ولهذا هم موحدون في جبهات محددة ومتصارعون بعدوانية في ساحة عدن ومناطق تُبن وبنا على سبيل المثال وبالتالي ستظل جذوة الصراع الحربي القادم مشتعلة ومتوهجة.
(ج) استمرار الوضع الأمني بعدن على هذا النحو المأزوم وانتشار المقاتلين المتشددين في احيائها قد يُعطي مبرراً لبعض الدول الكبرى الطامعة في تجديد احتلالها لعدن والسيطرة على المناطق المجاورة لها وهذا بدوره سيستدعي كل المتشددين باليمن والدول المجاورة من مقاتلي تنظيمي القاعدة وداعش للحضور والتواجد لقتال الغُرباء، وستتحول عدن الى (قندهار) جديدة في اليمن.
(د) ارتكب قادة أنصار الله خطأً كبيراً حينما قرروا مرافقة الجيش اليمني عسكرياً في نزوله الى عدد من المحافظات الجنوبية لتأمين أمنها وبالذات مدينة عدن دون مراعاة للجوانب اللوجيستية والفراغات الجغرافية والحاضن السياسي والاجتماعي.
ثالثاً:
كل الحلول الترقيعية في شكل قرارات "رأسية" من القصر الجمهوري بالمعاشيق او من المقر المؤقت بالرياض او من قبل اللجنة "الثورية" بصنعاء هي مضيعة للوقت واليمن سيغرق في دوامة لا حدود لها والقضية الوطنية اليمنية تحتاج تنازلات مؤلمة من كل الأطراف والى جرأة وشجاعة وإقدام من قبل كل الأطراف السياسية الشريكة في الوطن.
تخيلوا ان أهم ثلاث مدن يمنية وتمثل رمزية استثنائية لليمن العظيم تعيش حالة رعب في كل ساعة من ساعات نهارها الطويل ولياليها الموحشة الموشحة بالدماء الزكية والأرواح الطاهرة تتعرض لهذا الألم والخوف المستمر وهي :
*** العاصمة صنعاء يعيش ابناؤها رعب قصف طيران العدوان من "الأشقاء" الأعراب بقيادة السعودية.
*** والعاصمة التجارية الاقتصادية والثقافية عدن تعيش احلك لحظات أزمنتها السوداء تحت لهيب نيران العصابات الإجرامية والقاعدة وداعش ويُنشر فيها الرعب والجزع كما تُنثر حبات رمل (الغوبة) في بعض أحيائها.
*** ومدينة المكلا مدينة السحر والبحر ترزح مُنذ عشرة أشهر تقريباً تحت سيطرة تنظيم القاعدة في شبه جزيرة العرب ويرتكب باسم ديننا الاسلامي الحنيف ابشع الجرائم بحق المواطنين العُزَّل.
ولا يعني قولنا هذا أن بقية المدن اليمنية تنعم بالأمن والاستقرار.
وامام هذا المشهد الدرامي المرعِب يتوجب على قيادات فرقاء العمل السياسي باليمن ان يتنازلوا من أجل اليمن وان يتمثلوا قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حديثه الطاهر الشريف: "أتاكم أهل اليمن، هم أرق قلوباً وألين أفئدة، الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية ".
رئيس جامعة عدن - محافظ عدن السابق
|