أ٠د/ عبدالعزيز صالح بن حبتور -
كان يوم جمعةٍ حزينة ومرعبة لعدن ، ففي الساعة الثامنة صباحاً بتاريخ / 4مارس 2016م ، قام نَفَر من القتلة المجرمين يمتطون صهوة طاقمهم العسكري او المدني لا فرق ، بدون ارقام ، ويلبسون الزِّي العسكري ، ويغلفون وجوههم بأقنعة سوداء بهدف إخفاء ملامح إجرامهم ، ( وهذه أصبحت عادة مألوفة في عدن ما بعد الإحتلال ) وما ان وصلوا الى بوابة دار المسنيين حتى جمعوا الحراسات المدنية ، وقاموا بتوثيق اياديهم الى الخلف ، وبعدها نفذوا الجريمة فيهم بإطلاق رصاصات مميتة بالرأس مباشرة ، وبعدها دخلوا يتجولون بأسلحتهم ووحشيتهم الى قاعات وغرف النُزلاء المسنيين ليقتلوهم الواحد تلو الآخر بدماء باردة ، ويقتنصون المشرفات وهن أربع راهبات من جنسيات هنديه وروانديه وكينية من الكنيسة الكاثوليكية التابعين لجمعية الراهبة العالمية / الأم / تيريزا ذائعة الصيت والشهرة ، ( رحمة الله عليها ) ، وكانت حصيلة المجزرة في ذلك اليوم المشؤوم 16 شهيداً رحمة الله عليهم جميعاً ٠
كل النزلاء تجاوزت أعمارهم السبعين عاماً ويزيد ، تركهم أقاربهم وأسرهم وحتى بعض ابنائهم العقوق في الدار تخلياً عن واجباتهم ومسؤولياتهم الانسانية والأخلاقية والدينية ، نبذوهم الى هذا المبنى المنعزل نسبياً للهروب من أعباء رعايتهم والأهتمام بهم بعد ان أفنى معظم هؤلاء المسنون كل حياتهم في خدمة وتربية أقاربهم وابنائهم ، وهذه الجريمة البربرية كشفت للجميع عن جزءٍ من خلل تربوي وأخلاقي وديني علق بجزء من الناس الذين تجردوا من إنسانيتهم تجاه أسرهم وذويهم ٠
غادر المسنون منازل وشقق أقاربهم ليحتضنهم دار المسنيين بحي الشهيد عبدالقوي / ضاحية الشيخ عُثْمَان / مدينة عدن لتأمين وطن ومأوى لهم بديلاً عن قسوة سلوك هؤلاء ( الأقارب ) الذين انتفت عنهم الصفة الرحيمة للإنسان السوي ، وفي دار المسنيين إستقبلهم ملائكة الرحمة ( الممرضات الأجنبيات ) ليعتنوا بهذه الشريحة من المواطنيين اليمنيين من كل الجوانب بدءً ببرنامج صباحي مُبكر كالإستيقاظ والتنظيف لهم ، لان البعض لم يَعُد قادراً حتى لقضاء حاجته بدورات المياه لكبر سنهم وضعف صحتهم ، وتحضير وجبة الإفطار وبعدها يتواصل البرنامج اليومي الى المساء وهكذا هو برنامجهم المُعتاد الذي يعد من أفضل البرامج المُعدة لهؤلاء المِسنيين المتعبين من حطام السنيين الماضية وهم الذين جنحت بهم سفينة الحياة الى هذا الشاطىء الآمن بعد ان عز على ذوي القُربى في ان يؤمنوا لهم ذلك والمأوى ٠
انها مفارقةٍ مذهله وتحتاج منا جميعاً للتأمل والتبصر ، فحينما يتخلى عنك أقاربك وأحبابك في سن الشيخوخة وتتلقفك أيادي رحيمة من غير جنسك ولا مذهبك ولا دينك ، يتلقفوك حطاماً متشظياً من جور الحياة وقسوة ناسها ، وهم أُناساً لا يتكلموا لُغتك ولا يعرفون عاداتك ولا سلوكك الفردي أو الجماعي ولم يزوروا بلدك قط قبل ان تكلفهم كنيستهم انطلاقاً من الروح الإنسانية المتسامية عن العرق او اللون او الدين ، وهذا هو جوهر الأديان السماوية كلها التي بعث بها الله عز وجل الى الانسان من سابع سماه ٠
ولم نعرف بعد خيوط الجريمة ومجرموها بعد أكثر من إسبوع من حدوثها ولا أظن إننا سنعرفها قريباً لان ( السلطة الشرعية ) بعدن ليست مهتمة كثيراً بالجريمة وضحاياها إلا في وسائل الإعلام وتصريحاتهم الجوفاء ، إما المسنون والضحايا ليسو أولوية مهمة في برنامجها اليومي لعدم مقدرتها أصلاً على فعل الكثير في هذا الشأن ، وستتغاضى عنها كما غضت الطرف عن جرائم سابقة الحدوث في عدن الجريحة ، والأمثلة لا عد ولا حصر لها ، بل ان عدن أصبحت اليوم أخطر مدينة بالعالم في عدد ونوع الجرائم المرتكبة فيها ، بين الفرقاء من الرفاق حملة السلاح ( المقاومة ) وهم كُثر من جهة وبين الجرائم المُرتكبة من قبل تنظيمي القاعدة وداعش الإرهابيتين ( وهم الجزء الرئيسي من المقاومة ) ٠
أن هذه الحادثة وغيرها تشير الى الكم الهائل لسموم الفتاوي الدينية المتعصبة المتطرفة التي من خلالها حصدت أرواح المسلمين وغيرهم وتحاول عبثاً تدمير قيم ومبادئ العيش المشترك في اليمن وعدن على وجه التحديد ، وبواسطة هذه الفتاوي المتطرفة تم تهجير العديد من سكان عدن باعتبارهم إسماعيليين شيعة ،وفي عدن تم إحراق كنائس / سانت جوزيف – البادري بحي كريتر ، وكنيسة حافون الكاثوليكية بالمعلا ، وكنيستي سانت انتوني بضاحية التواهي، وتم تدمير أضرحة أولياء الله الصالحين مثال ضريح الولي الصالح الحبيب / محمد بن علوي الشاطري رحمة الله عليه بحي المعلا وتدمير مسجد الخوجه بحي القطيع بضاحية كريتر وتكررت المحاولات لهدم عدد من الأضرحة والمساجد الشهيرة ولولا تماسك أهلنا بعدن الذين وقفوا سداً منيعاً لمنع حدوث المزيد من التدمير والهدم والحرق للمعالم في المدينة ، ولولاهم لكان جزءٍ من معالم المدينة أصبح في خبر كان ٠
وفي محافظة لحج تم هدم وتدمير أحد أقدم المعالم الإسلامية ويقدر المؤرخون عمرها ب 800 عام وهو المزار الشهير للعالم الجليل / سفيان بن عبدالله رحمة الله عليه ، إذ تم نبش قبره وتدمير مبانيه مع قبته وتسويتها بالأرض ، كما تم تدمير قبر الحبيب والعالم الجليل / عمر بن أحمد السقاف رحمة الله عليه بقرية الوهط بلحج والذي يعود لقرون ماضيه ٠
إذاً المطلوب كان ولازال قتل روح عدن واليمن المليئة بشواهد التعايش الإثني والديني والمذهبي على مر التاريخ ويراد لها ان تغادر مربع التسامح والتعايش الى مربع التطرف والغلو ، وتدل القرائن على ان ما يحدث إنما هو من فعل تأثير تصدير لأفكار وفتاوي دينية مُتطرفة بموازاة الريال العربي القادم من دول الجوار ، ففكر المذهب الوهابي ان جاز لنا تسميته بمذهب والقادم من عمق الصحراء المتصحر والجامح لإجتثاث أي مذهب أو رأي مخالف لهم ، والنموذج الحصري لتطبيقاتها العملية هو تنظيمي القاعدة وداعش ومشتقاتها الدموية ٠
ان الفكر الوهابي الغازي يتعارض مع الطبيعة اليمنية التسامحية ومذاهبها الإسلامية المعروفة بتعايشها لقرون خَلْت كالشافعية ونهجها الصوفي المتسامح ، الزيدية كما يطلق عليه علماء السنة ذاتهم بانه المذهب الخامس ، والمذهب الإسماعيلي الشيعي الذي إنصرف كلياً عن جدل السياسة والحكم وتفرغ للإنشطة التجارية والثقافية ، وهذه هي اليمن من زمن الملكة بلقيس الى زمن اليمن الواحد تتنوع وتتماهى مع عشقها للتعايش في كل الأزمنة والعصور ٠
﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾
رئيس جامعة عدن — محافظ مدينة عدن السابق