محمد حسين العيدروس -
رغم ما تثيره كلمة "الحكم" من جدل مرتبط بمن يتولى شئون إدارة البلاد، إلا أن الجانب المتعلق بالفرد ظل غائباً أو مغيباً عن ثقافتنا الإنسانية، لأن الكثير من الناس يخشى النظر إلى نفسه، وتقييمها في ما إذا كانت قد انصفت أحكامها أم أخفقت.. لذلك صار عندنا معنى "الحكم" مرتبطاً بالملك أو الرئيس، وبعيداً كل البعد عما نمارسه يومياً.. الحكم في الحقيقة هو ما يتخذ من قرار بشأن أي مسألة أو أمر يعرض علينا وبالتالي فهو قرار مبني على أساس ثقافي ومعرفي وإدراكي، وتلعب الخبرات التراكمية فيه دوراً أساسياً في مجانبة العدالة المنشودة.. وعندما يفشل المرء أو المجموعة في بناء أحكام عادلة، ويكرر فشله في أكثر من موقف فإنه بلا شك لا يمكن الوثوق بقدرته على صنع العدالة لو أصبح قاضياً مثلاً أو وزيراً أو رئيساً للدولة. فالعدالة والظلم سلوك يومي نمارسه مع أبنائنا في البيوت، ومع جيراننا، وفي مواقع أعمالنا وفي كل مكان نرتاده بما في ذلك منابرنا الخطابية التي نتحدث منها إلى جماهيرنا، ونعبئ من خلالها الرأي العام للمواقف المختلفة.. فإن أخفقنا أن نكون عادلين في بيوتنا، ومدننا، ومن على منابرنا الخطابية فهل ينتظر منا أن نكون عادلين حين نجلس على كرسي حكم الدولة؟ هذا سؤال مهم يجب أن نطرحه على أنفسنا قبل أن نولي زمام أمورنا لأي شخص، أو فئة، أو حزب.. فمن الحماقة جداً أن نعرف أن المتحدث لا يقول الحق، ويتنكر لجانب على حساب جانب آخر ثم نجعل منه رمزاً للعدالة، وحلماً لمستقبل وطن وشعب..!. في السياسة، غالباً ما نجد المتنافسين يلجأون إلى التأثير على وعي المواطن من خلال دغدغة مشاعره بقضايا حساسة ترتبط بمعيشته اليومية، وأحلامه بمستقبل أبنائه، والمسائل المرتبطة بالعدل والظلم من غير التفكير في ما إذا كانوا عادلين في نقل الحقائق للمواطن أم لا، لأنهم يعلمون مسبقاً أن من يخاطبونه إنسان بسيط لا يضع في رأسه أن من يكذب مرة سيكذب ألف مرة، وأن من لم يكن عادلاً في بيته ومع جيرانه وحارته يستحيل أن يكون عادلاً في أي مكان آخر، وأن من لم يكن صادقاً ما هو إلا إنسان يعرف أن الصدق في غير صالحه، وبالتالي فإن الكذب والاحتيال هو السبيل الوحيد لبلوغ المرام.. عندما يعتلي مسئول أحد الأحزاب منبراً ويحشد الناس ليخبرهم أن السلطة لم تحقق مشروعاً واحداً لمدينتهم، ولم تقدم شيئاً لهم منذ وصلت الحكم، فلا بد حينئذ من تذكيره بأنه هو نفسه أحد الأشياء التي قدمتها السلطة لمن يخاطبهم، ولولا تشريع السلطة للتعددية الحزبية، والحريات الديمقراطية لما كان بوسعه الوقوف أمام الناس، وانتقاد السلطة بكل حرية، وبحماية أمنية توفرها أجهزة السلطة لمهرجانه..!!. ومع أن هذا المنطق يغني عن الحديث عن الطرق المعبدة، والمستشفيات، والمدارس، ودور الرعاية الاجتماعية، والأمن والسلام الذي يتمتع به إلاّ أن الوقوف بين أيدي الجماهير وجحد النعمة أمامها، يكفي ليكون مؤشراً أن المتحدث يمارس الكذب والتضليل، وهما جزء من مكونات شخصيته، أو تنظيمه ومن المستحيل أن يكون هناك من هو يحكم بالظلم وهو زعيم تنظيم أو حزب، ويحكم بالعدل عندما يتحول إلى زعيم دولة، لأن الحكم بالعدل فرض أوجبه سبحانه وتعالى بقوله: ( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)، ولم يرخص لغيره باختلاف المكان أو المنصب، أو الزمان!. إن العدالة مرتبطة بالأمانة وإذا ما عجز البعض عن صون الأمانة، ونقل الحقيقة كاملة إلى الآخرين، لا ينتظر منه الاعتراف بحق لجماهيره غداً.. ومثلما أنكر على غيرهم إنجازاته سينكر عليهم كفاحهم ونضالهم وتضحياتهم، وسيصادر الوطن من بين أيديهم.. وهنا تقع الملامة كلها على الذين منحوه الثقة، وأولوه أمانة المسئولية رغم أنهم يعرفون أنه حين أنكر كل ما تحقق أمامهم، يكون قد خان الأمانة، وشهد زوراً وبهتاناً،وخدع الجماهير..!!. إن مسألة الحكم تبدأ بالوعي بها، وممارستها بعدالة ضمن أصغر التكوينات المجتمعية - الأسرة- وإذ ما ترسخ في ثقافة المرء أن يكون رجلاً عادلاً في أحكامه، منصفاً أينما حل به المقام، ومهما كانت تداعياتها، وكذلك الحال للأحزاب والتنظيمات السياسية، فإنها حينئذ تستحق ثقة الجماهير.. أما أن تجحد بعض القوى النعم، وتكذب بكل صلافة، فإنها - بكل تأكيد- لن تقود الجماهير إلاّ إلى الضلالة والخسارة وخراب الأوطان.. فليس من وطن بناه شعبه بأكاذيب، وادعاءات!!. الثورة