عبدالله المغربي - وكلما تذكرنا بشاعة الجرم على قاعة العزاء ..
رددت جوارحنا - لن يفلت الأعداء من ثأر الحميريين ..!
كان يوماً عادياً بالنسبة لي ، إلاّ ان ذاكرتي ومعي عددٌ من الزملاء - كنّا نستحضر حضور مراسيم العزاء لآلـ الرويشان - خاصة ان استاذنا العزيز محمد بن علي الرويشان هو المسؤول الاول عنا بمكتب رئيس المؤتمر الشعبي العام بإعتباره مدير مكتب الزعيم الصالح .
انتهى وقت الدوام وكان علينا ان نُعجل في تناولنا لوجبة الغداء حتى يتسنى لن تعزية آلـ الرويشان والعودة الى اعمالنا قبل الموعد المحدد لنا الذي يجب علينا ان نكون متواجدين فيه .
وصلنا الى الشارع المؤدي للصالة فوجدناه مكتضاً وزحام السيارات ومحاولة فك اشتباك بعضها ببعض هو ما يشغل القريبين من المكان - فاضطررنا سلوك طريقٍ فرعي لنصل الى اقرب نقطة من "القاعة الكبرى" .
وصلنا وكنت مع أربعة من الرفاق - ترجلنا حتى وصلنا الى البوابة الرئيسية حين التقيت بالشيخ أحمد صالح دويد ونجله صديقنا العزيز - تبادلنا السلام والتحية وفي تلك اللحظة أمسك نجل الشيخ دويد يدي لنلحق بوالده - وصلنا الى اول المعزين آل الرويشان وبدئنا حينها بتعزيتهم وما شدني هو الترتيب لابناء الفقيد الشيخ علي الرويشان فقد كان وزير الداخلية يقف بعد الكبار من أسرته وبعد شقيقه مدير مكتب الصالح على الرغم من منصب اللواء جلال المتفوق عليه والذي يعتبر من اهم رجالات الدولة ، وذلك الترتيب يُترجم بعراقة وأصالة وعظمة واخلاق ابناء الفقيد الذين انتهلوا تربيتهم وارتووا منها حين تعلموا ذلك من والدهم .
انهينا السلام على صفٍ كان يمتد الى منتصف صالة العزاء وبعدها لمحت صديقاً عزيزاً أشار لي فالتمست العذر من نجل دويد وممن كانوا معي وذهبت للجلوس بجواره وتبادلنا احاديث كنّا مهتمين بها ، وبعد حضور مسؤول ذاك الصديق اعتذرت له واتفقنا على ان لا بد من ان يكون لنا لقاء نتفق عليه ونُحظِر له - كنت حينها في الجهة الغربية من قاعة العزاء ولماّ هممت بالبحث عن رفاقي الذين كنت واياهم معاً منذ ما قبل الوصول الى الصالة أشار لي احدهم وحين لمحته استرقت طرفة عين لإرى بجوارة الشهيد العزيز والمغفور له باْذن الله ابراهيم شجاع الدين الذي ما إن اقتربت منه حتى بدء كما عرفته دوماً مبتسما ، جلست اتوسط الزميلين وتجاذبنا اطراف الحديث الذي لم يخلوا من الوضع الراهن بمختلف نواحيه ، وما لم يفارق ذهني ولن أستطيع نسيانه هي تلك الضحكة التي ضحكناها والشهيد شجاع الدين حين بدى ممازحاً صديقه وصديقي من حظرت وإياه سوياً وكنت حينها اتوسطهم ...
لم انسى في ذلك اليوم ان أمر بنظرة عابره متفحصاً الوجوه البارزة التي اعرفها وهم كثر إلا أن شهيداً كانا يجلسان امامي مباشرة فقط ما يفصل بيننا هي الوسادات التي يستند اليها من كانوا فيها - الشهيد اللواء عبدالقادر علي هلال والشهيد اللواء محمد ناصر العامري الذي صافحته يومها بابتسامه واشارة برفع كُلٍ منا كفه يُحيي الاخر والمسافة تلك تفصلنا .
ضجيج وتحايا وتواشيح أصيلة بترانيم يمانيه وحناجر كوكبانيه كان المنشدون يدوون بها ومكبرات الصوت تضج منها ، بعض من الوقت جلسنا ، وحتى اللحظة لم ادري ما الذي ألح بي لان ادعو ومعي احد من حضرنا وإياه سويا البقية من الرفاق لان حان وقت المغادرة ، ولم ادري لما كل ذلك الإصرار الذي اتعجب منه على ان ننهي مقيلنا هناك ونعود الى المقيل الذي نعتاده دوماً ، ولماّ هممنا بالقيام سمعنا احدهم بنادي وبصوتٍ جهور "يا اصحابنا المضيفين قوموا من الضيف" واظن ان تلك الكلمات هي من تكفلت بباقي مهمة نهوضنا وتوديع من تبادلنا واياهم الكلام وكان اخر الكلام مع المرحوم بن شجاع الدين الذي أكد لنا من دعوناه لنخرج وإياه سويا بإنه ينتظر احد شيوخ قبيلة حاشد الشباب ، فلتمسنا له العذر على أمل اللقاء في مقيلٍ يجمعنا ..
خطونا وحين كان لنا ان نخطوا عتبة الباب الرئيس للقاعة وجدت العزيز الفاهم والجريح اليوم في احدى مستشفيات العاصمة صنعاء والذي وادعناه وفي الوداع شيءٌ من الدعابة التي اعتدناها كزميلين معاً ..
من بين الزحام اخترقنا الطوابير المكتضة بالمعزين في الباب الخشبي للصالة ونزلنا تلك الدرجات بخطواتٍ متأنقة ونحن لا نعلم بإن لحظاتٍ مفزعات تنتظرنا - وفي الباب المتلاحم مع جدران سياج القاعة وجدت استاذاً عزيزا واعلامياً عملاقا ورمزاً من رموز الاقلام اليمنية الذي أكن له الود والكثير من الاحترام كونه الاستاذ الذي لا يمكن لشخصي ان استغني او ارتوي من عذب مقالاته ورسائله وروائع خواطره ..
انتهيت من تبادل ود الحديث معه ترجلت والزملاء جميعاً متوجهين الى السيارة التي حملتنا حاضرين - وفي بضع الامتار تلك الفاصلة ما بين سيارتنا وبوابة القاعة الكبرى وجدت المشائخ والقادة والنخبة من المثقفين والساسة والكثير من الأعضاء الاوفياء للمؤتمر وانصاره .. وجميعهم كان السلام معهم برفع الكف والاشارة ..
وصلنا الى سيارتنا وحين بدأنا بالصعود كانت الفاجعة ففي اقفالي للباب الذي صعدت منه احسست بارتخاء الارض وارتجاجها - وتردد في ذهني قول الحق : اذا زلزلة الارض زلزالها " وفي جزء من الثانية وقبل سماعنا لدوي الانفجار الشديد سمعت رصاصات تطلق من هنا ومن بعيد وما كان جزء الثانية الاخرى يمر حتى مُلئت اذانُنا بصوت تفجيرٍ ضخم ما كان لعقل بشرٍ ان يتخيل ولو خيالاً ان ذلك الانفجار من بعد الاهتزاز والارتطام هو لغارة عدوان في قلب صالة عزاء بها ما يزيد عن ثلاثة الألف شخص - جميعهم يقدم وأجب عزاء اعتدنا ان نقدمهُ كذلك ...
التفت جميعنا صوب القاعة منبهرين - ولم نكن حينها متوقعين ولا مصدقين بإناّ نعيش على بعد أمتار من غارة عدوان استهدفت الألف الرجال والشيوخ والشباب ..
هرعنا للنزول من السيارة ونحن نهرول مبتعدين عن مكاننا وانظارنا تحلق مع أعمدة الدخان والاشلاء ترافق الدخان وتسبقه علواً وتصل هابطة الى الارض قبل غيرها ولن انسى ابداً اجزاء الموانع الاسمنتية وهي تحطم سياراتٍ أمامنا ومن عليها يفترقون الحياة وليس لاحدٍ الشجاعة التي تمكنه من الوصول لإخراجهم او انتشالهم والجميع يهرول ويبتعد واصوات المبتهلين الى الله تُسمع - الطالبين الستر منه والنجاة منه والمعترفين ان لا ملاذ لنا جميعاً الا اليه - وبين تلك الأصوات بدأ المكلفون حينها بحراسة مداخل الصالة بالتحذير - وأصوات الصيحات هي الأيقونة الحزينه في تلك اللحظات - وجاءت الغارة الثانية لتزيد المرعوبين رُعْبا مؤكدةً الحقد الدفين الذي يحمله لنا الأعداء وفاضحةً الغصة التي بهم وسببها ضعفهم والعجز الذي يكمن بهم ...
مئات الشهداء والجرحى - وجميعنا يكرر اسماء من تركناهم هناك بالداخل ومن بادلناهم السلام والتحايا حين كانوا هم الواصلون ونحن المغادرون ..
دماء ، اشلاء ، صيحات ، أناّت ، دموع ، وصرخاتٌ من الحروق او الجراح - وهدوءٌ مخيف وصمتٌ مفجع وسكون بلا حراك ورعشات مع همسُ أنّات وحركاتٌ سريعات بها الخطوات متباعدات كانت لمن كتب الله له النجاة من قصف الطائرات - وهناك كان دخانٌ اسود يحيط بهؤلاء جميعاً ..
استشهد من استشهد وجُرح واصيب من جُرح - ونجى بأعجوبة من كتب الله لهم النجاة وتأخر عن الحضور من لم يحن قدره ..
.
حزن الشعب من اقصاه الى اقصاه وأدان ذلك الجرم - الأعداء قبل الانصار واليهود سبقوا الكثير من المسلمين وكان هنالك حتماً حظٌ للمنافقين الذين برروا وللكذب والتظليل غزلوا ثم نسجوه وصاغوا لكن كذبتهم تلك ما كانت لتدوم طويلاً بوجود من يحترم حق المدنيين ويعرف أصول الحرب والمحاربين ويتيقن من هم المهزومين الظالين ..
رحم الله شهداء الوطن الابرار والهم اهلهم وذويهم الصبر والسلوان - شفاءٌ من الله لجرحانا ولا ارانا الله مكروهاً في إحدٍ منا او من أهالينا ..
ولنكن على ثقة بان حق الثأر مكفول والقصاص ممن اعتدوا علينا محتوم فلن نكن الأشد بأساً والاقوى ردعاً وثأراً والحازمين في مقاضاة الأعداء والعازمين على ان لا تضيع دماء شهداءً هدرا - المترفعين عن الصغائر والمتظافرين في وقت ألمحن والشدائد لنكون كما يجب ان نكون - فنحن اهل الايمان والحكمة والإيمان يمنٍ منا والحكمة شقيقتنا وعلى الدوام تُلازمنا ..
عاشت اليمن حرة أبية - النصر لكل الأحرار - ولا نامت اعين الجبناء والخونة وكل المرتزقة ..
|