بقلم / خيرالله خيرالله -
في ظلّ وضع عربي أقلّ ما يمكن ان يوصف به بأنّه مزر، تأتي الأنتخابات الرئاسية اليمنية المتوقّع أجراؤها في العشرين من سبتمبر- أيلول المقبل لتعطي بعض الأمل على صعيد المنطقة وبأن هناك من يسعى ألى ربط بلده بالمستقبل بدل البقاء في أسر الماضي.
قبل كلّ شيء، تأتي الأنتخابات لتثبت أن هناك تجربة ديموقراطية تتطور في أستمرار نحو الأفضل في اليمن. صحيح أنّه لا يمكن الحديث بعد عن تجربة مكتملة بالمقاييس الأوروبيّة، ألاّ أنّ الصحيح أيضاً أن اليمن لم تتراجع عن الديموقراطية وتمسّكت بها عى الرغم من كلّ الصعوبات والعقبات والمؤامرات التي واجهها البلد منذ أستعادته وحدته في الثاني والعشرين من مايو 1990 . ولعلّ أفضل دليل على أن التجربة الديموقراطية تترسخ وتتطور بأستمرار الخطاب السياسي للمعارضة الممثّلة بأحزاب "اللقاء المشترك" التي أختارت التلطّي خلف اليد فيصل بن شملان بصفة كونه شخصية نظيفة كي يكون لديها مرشّح للأنتخابات في مواجهة الرئيس علي عبدالله صالح. بالطبع لا يمكن لأيّ شخص الأعتراض على فيصل بن شملان الذي يحق له ترشيح نفسه للرئاسة مثله مثل أيّ مواطن تتوفر لديه شروط معيّنة، لكنّ المستغرب أن تلجأ أحزاب اللقاء المشترك ألى شخصية لا تنتمي أليها وتدعمها في أنتخابات الرئاسة، بل وتتبنّى ترشيحها في هذه الأنتخابات بدل ترشيح أحدى الشخصيات النظيفة المنتمية ألى أحد أحزاب "اللقاء المشترك". كان في أستطاعة هذه الأحزاب لعب دورها في دعم الديموقراطية عن طريق تقديم مرشّح ينتمي ألى أحد أحزابها، أقلّه من أجل أن يعرف "اللقاء" عن كثب وزنه الحقيقي وكي يتعرّف الناس بدورهم على الوزن الحقيقي ل"اللقاء". كان يمكن أن تكون تلك خدمة كبيرة تقدم ألى البلد بدل العمل على الأساءة ألى التجربة الديموقراطية التي تبيّن بالملموس أنّها تخدم اليمنيّين، جميع اليمنييّن من دون أيّ تمييز من أيّ نوع كان.
في كلّ ألأحوال، تسير الأمور في اليمن ألى أمام. لا شيء يمكن أن يقف في وجه تقدّم التجربة الديموقراطية، بما في ذلك محاولة أحزاب "اللقاء المشترك" السعي ألى الأنتقاص منها عبر تفادي تقديم مرشّح منها في أنتخابات الرئاسة وكأنّ هذه الأحزاب تريد الأعتذار بشكل مسبق عن هزيمتها. ويبدو أن خطة المعارضة الممثلة بأحزاب "اللقاء المشترك" مكشوفة منذ الآن. أنها تسعى بكل بساطة ألى التشكيك سلفاً في نتيجة الأنتخابات عن طريق القول أنّها أمتنعت عن المشاركة فيها مباشرة بسبب غياب ضمانات معيّنة كانت تطالب بها. وبكلام أوضح تريد هذه الأحزاب القول أنّها شاركت من دون أن تشارك. أنها مستعدّة للأستفادة من الأجواء الديموقراطية السائدة في البلد من دون الأقدام على خطوة شجاعة تتمثّل في الخوض المباشر للأنتخابات. كذلك تبدو هذه الأحزاب التي لا يجمع بينها شيء من الناحية الأيدولوجية، نشر خطابها السياسي المضطرب مستفيدة من الأجواء الديموقراطية في اليمن من دون أضطرار كلّ حزب ألى كشف أوراقه التي يتناقض مضمونها بشكل كامل وصريح مع أوراق الأحزاب الأخرى المتحالفة معه.
وقعت هذه الأحزاب ضحية اللعبة التي تمارسها والقائمة على أستغلال النظام القائم وطعنه من خلف في الوقت ذاته وهي بذلك تطعن الديموقراطية. لو لم يكن الأمر كذلك، كيف يستطيع مرشح هذه الأحزاب السماح لنفسه بتبني الدعوة الواردة في برنامج "اللقاء المشترك" ألى "تغيير النظام القائم". نعم أنّ النظام القائم يمكن أن يكون في حاجة ألى تحسين. وكلّ نظام في العالم في حاجة ألى تحسين. لكنّ كلمة التغيير ليست في مكانها في أيّ شك من الأشكال، نظراً ألى أن النظام المعمول به قائم على دستور أقرّ في أستفتاء شعبي وفي أساسه التعددية الحزبية والديموقراطية. هذا الدستور هو الذي يسمح بممارسة الديموقراطية وهو الذي يسمح لأيّ مرشح للأنتخابات بالحديث عن تصحيح الأوضاع والدعوة ألى تصحيح السياسة الخارجية والذهاب حتى ألى حد الأفتراء على الوطن عن طريق الأستغلال السيء للديموقراطية. هل من يريد الأنقلاب على الديموقراطية في اليمن عن طريق الدعوة ألى تغيير النظام؟ هل يفهم مطلقو هذه الدعوة ما هي النتائج التي يفترض أن تترتب على كلامهم... أم أن في أستطاعتهم قول ما يشاؤون في اليمن؟ يستطيعون ذلك لسببين. الأوّل أن هناك ديموقراطية حقيقية في البلد وأن هناك قناعة لدى رأس الهرم في السلطة بأنّ معالجة الأساءة ألى الديموقراطية لا تكون ألاّ بمزيد من الديموقراطية. أما السبب الآخر فهو يكمن في أنّ لا ضريبة على الكلام في اليمن. ألم يقل فيصل بن شملان في الخطاب الذي ألقاه في صنعاء قبل أيّام مفتتحاً حملته الأنتخابية : " عندما تكون وطناً ضعيفاً ومواطناً لا يتمتع بصحته وحريته، تكون في سياستك الخارجية تابعاً للدول الأخرى مهما علا صوتك بتصريحات قويّة." مثل هذا الكلام جميل جدّاً. وكان يمكن أن يكون أجمل بكثير لو أمتلك مرشح العارضة للأنتخابات حدّاً أدنى من الجرأة والشجاعة وقال من هي الدول الأخرى التي يُعتبر اليمن تابعاً لها؟
بفضل الديموقراطية، وبفضل النظام القائم، الذي تطالب العارضة بتغييره، على الرغم من أنّها المستفيد الأوّل منه، يستطيع أيّ مرشح قول أيّ شيء يريده، حتى لو كان كلامه مجرّد كلام فارغ عن تبعية اليمن. عن أي تبعية يتحدّث مرشح المعارضة؟ هل هناك بلد أكثر أستقلالية من اليمن في سياسته الخارجية؟ هل هناك من يتجرّأ على تسمية الأشياء بأسمائها بين زعماء الدول في المنطقة غير علي عبدالله صالح وعدد قليل من زملائه الذين رفضوا الأنصياع لأيّ قوة عظمى حتى لو كانت هذه القوّة ملكة العالم في هذه الأيام، خصوصاً متى تعلّق الأمر بالكرامة الوطنية والحقوق العربية؟
المهم وسط كلّ ما يجري في اليمن أن الحملة الأنتخابية تظهر أن البلد يسير في الطريق الصحيح وأنّه لا يمكن أن يحيد عن التجربة الديموقراطية. على العكس من ذلك، أن كلّ شيء يدلّ على أن التجربة الديموقراطية تتعمق وتتجذّر في المجتمع اليمني بدليل الحملات الشعواء التي تشنّها المعارضة على الحزب الحاكم ومرشحه. كان في أستطاعة السلطة الردّ على هذه الحملات بالمثل، لكنّ الملفت أن علي عبدالله صالح دعا ألى الهدوء وألى أن تأخذ اللعبة الديموقراطية مجراها. أكثر من ذلك، دعا أجهزة الأعلام الحكومية ألى بث الخطاب المعارض بحذافيره مثبتاً أن البلد لم يعد يخشى على تجربته الديموقراطية وأنّ الشعب يمتلك ما يكفي من الوعي للتمييز بين من هو صادق وبين من يسعى ألى أستغلال الديموقراطية لأغراض لا علاقة لها بمصلحة اليمن.
في النهاية، يعرف اليمنيون جيّداً من صنع الوحدة التي من دونها كان بقي بلدهم أسير لعبة التجاذبات الأقليمية التي كان يمكن أن تهدد بجعله تابعاً لهذا المحور الأقليمي أو لهذه الدولة الكبرى أو تلك. كذلك يعرف اليمنيون من حمى الوحدة وسعى ألى تفادي أي عمل عسكري حتى اللحظة الأخيرة. ويعرفون خصوصاً من الذي حمى الديموقراطية وصانها في أحلك الظروف مصرّاً على تفادي أي نوع من الأنتقامات حتى من الذين أساؤوا ألى الوطن وتآمروا عليه. وربّما يعرف اليمنيون حالياً أكثر من أيّ وقت أن المنطقة كلّها في حال غليان وأن ما يحمي بلدهم السياسة الحكيمة التي أتبعها رجل عرف منذ اليوم الأول لتوليه المسؤولية كيف يتجنّب الأفخاخ بما في ذلك الفخ الذي نُصب لليمن عندما أحتُلّت جزيرة حنيش وكان مطلوباً من اليمن التورط وقتذاك في عمل عسكري يغرقها في الرمال المتحرّكة للبحر الأحمر. وكانت النتيجة أنّ اليمن عرفت كيف تستعيد حقوقها كاملة بفضل التحكيم الدولي من دون أن تخسر رجلاً واحداً.
بأختصار شديد، يدرك اليمنيون أن ثمة فارقاً بين لعبة المزايدات واللعبة الديموقراطية وأن الديموقراطية مستقبل البلد وضمانة للوحدة والحرية والسيادة والأستقلال ، فيما المزايدات الطريق الأقصر لتبرير الفشل. أنّه الفشل الذي مُنيت به المعارضة والمتمثّل في عدم القدرة على التوصل ألى برنامج مشترك حقيقي يسمّي الأشياء بأسمائها ويعترف قبل كلّ شيء بأنّ الدعوة ألى تغيير النظام هي الأفلاس بعينه، أفلاس الذين لم يقتنعوا بعد بأنّهم يستطيعون قول الكلام الذي يقولونه والتعبير عن آرائهم بفضل النظام الديموقراطي ولا شيء آخر غير هذا النظام الذي يدعون ألى تغييره! هل من أفلاس أكبر من هذا الأفلاس؟
عن الراية القطرية