د.عبدالرحمن أحمد ناجي - عند قرب حلول شهر رمضان المبارك في كل عام يدور بخاطري دائماً أن من المؤكد أن شياطين الجن قبل أن تُصَفَّد في السماء طوال الشهر الكريم تعقد اجتماعاً سنوياً في التاسع والعشرين من شعبان بشياطين الإنس لتسلمهم راية الشر وتوصيهم باستكمال مهمتهم بغواية أقرانهم من أولاد آدم، فيطمئنهم شياطين الإنس بأنهم لا يحتاجون للتوصية، خصوصاً أن بعض أولئك البشر قد تفوَّق على أساتذته من شياطين الجن بل وارتقى لمصاف المعلمين لهم، فأجبروهم على أن يتخذوا لأنفسهم صاغرين مقاعد دراسية يتتلمذون فيها على أيدي عباقرة الشر والمكر واللؤم والخديعة من أولاد آدم بما لم يكن ليخطر لهم على بال، وَرُبَّ تلميذ فاق أستاذه..
وفي العام 2011م وعلى مسافة زمنية بعيدة من شهر رمضان المبارك، وقبل أشهر من خضوعهم للتصفيد فيه، كانت الشياطين متواجدة بقوة وكثافة وبصورة ربما غير مسبوقة منذ عقود وعقود مضت داعمة ومساندة للمخططات الصهيونية لإثارة الفتنة وإشاعة التناحر والاقتتال وإراقة الدماء وإزهاق الأرواح بين الشعوب العربية المسلمة في أكثر من دولة من جهة، والأنظمة السياسية الحاكمة لها من جهة أخري، لتحويل تلك الدول أطلالاً وخرائب تنعق في أرجائها البوم والغربان، وبالصورة التي تضمن انصراف الأنظار وتحول اهتمامات ملايين الشباب العربي المسلم عن قضيتهم المصيرية الأولى بتحرير أرض فلسطين، ليصبح همهم الأكبر وهاجسهم الأوحد إسقاط تلك الأنظمة الحاكمة وإشغالهم بخلافات ثانوية في شئونهم الداخلية، والنأي بهم تماماً عن البحث في كتابهم المقدس (القرآن الكريم) عما يمكن أن يطفئ نار تلك الفتنة، ودفعهم بمنتهى القوة والذكاء والخبث والدهاء الى الاحتكام للشارع للفصل في مطالبهم وليس للشريعة الإسلامية وتعاليمها السمحاء.
لكن قناعتي الراسخة أن شياطين الجن في ذلك العام كانت في (اليمن) العظيم في إجازة، فقد اكتفت فقط بإشعال فتيل نار الفتنة فيه على غرار نظيراته، ثم أوكلت لحلفائها من شياطين الإنس استكمال المهمة تجسيداً لعظيم ثقتها بهم، وإيمانها الشديد بعبقريتهم وتفوقهم في إنجاز ما هو منوط بهم بانتهاجهم طرقاً وأساليب مبتكرة وغير تقليدية وغير معهودة من قبل، وبالفعل أثبت شياطين الإنس من اليمانيين أنهم كانوا عند تلك الثقة وأهلاً لها بامتياز، فقد قاموا باستكمال المهمة على أكمل وجه وبصورة مبهرة ومذهلة، أجبرت شياطين الجن على الوقوف والتصفيق الحار والانحناء لهم ورفع القبعات إعجاباً بهم.
إلا أن أحداً لم يكن ليتخيل قط أن يبلغ القبح مداه وأن ينزلق الفجور في الخصومة لمنحدرات تتنافى تماماً مع كل الأعراف والمبادئ والقيم الإنسانية المتعارف علىها، ناهيكم عن تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف الواردة في كتاب الله وسنة الحبيب المصطفى صلى الله علىه وآله وسلم عن الكيفية التي ينبغى أن يتعامل بها المحكومون مع الحاكم مهما بلغ ظلمه وجوره وجبروته وطغيانه بحق مواطنيه، ولعل الخطاب الإلهي لنبي الله موسي وأخيه هارون وهما من أولي العزم من الرسل- وأخيه هارون يقدم أجمل وأروع وأبلغ مثال يُعَلِّم كل أولاد آدم كيفية التعاطي مع من ادعى الربوبية ووضع نفسه في مرتبة الخالق «فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى»، ورغم أنه بلغ بذلك طغياناً لا يقاس علىه وفق ما شهد به القرآن الكريم في قوله تعالى في سورة طه (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى «43» فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى«44»)، فما بالنا بحاكم مسلم يجمع علماء الدين ويرفع المصحف الشريف مطالباً إياهم بالاحتكام إليه في حل ما اختلف فيه الناس وتنادى إليه بعض الشباب، ومحملاً إياهم أمانة البحث فيه عما يخمد نار الفتنة المتأججة.
فإذا بأولياء الشيطان ممن كانوا يزعمون آنذاك أنهم الأكثر علماً وفهماً ودرايةً بأصول وتعاليم الشريعة الإسلامية من بين أولئك العلماء ودون انتظار للتشاور معهم أو للحصول على تفويض منهم عقب حضورهم وانتهاء ذلك الاجتماع، يتوجهون مباشرة للشباب ليصبوا الزيت على النار ويعتلوا المنبر أمام من اقلقوا السكينة العامة وعطلوا مصالح العباد حينما قطعوا الطرقات، ليمنحوا تلك القطعان البشرية براءة اختراع بعد أن زعموا أنهم أحرجوهم بأسلوبهم المبتكر لإسقاط النظام الحاكم بهجرهم لمساكنهم والاعتصام في الطرقات واتخاذها مقرات مُقَاماً ومناماً على مدار الساعة لأيام ولأشهر تالية، دون أن يوردوا نصاً واحداً يدعم ويؤيد إصدارهم براءة الاختراع تلك من كتاب الله أو سُنة نبيه، كما لم يستشهدوا بنص أي مادة من مواد الدستور الوضعي مما زعم أولياء الشيطان كذلك زوراً وبهتاناً أنها تجيز لهم ذلك المُقَام.
وقد تكررت بعد ذلك التحذيرات للرئيس الصالح وتجددت أسبوعياً بخطورة المجازفة بالإصرار على الحضور لمنصة ميدان السبعين عقب الانتهاء من كل صلاة جمعة، ولا شك أن تلك التحذيرات المتكررة لم تأتِ من فراغ، بل إنها كانت مستندة إما على توقعات لما يمكن أن تكون علىه ردود الافعال جراء التأجيج في شارع الجامعة مع تزايد عمليات القنص الجماعية أو الفردية التي كانت تتم من حين لآخر لحصد المزيد من أرواح الأبرياء للتعجيل بإسقاط النظام السياسي الحاكم أو بناء على معلومات استخباراتية مؤكدة أو شبه مؤكدة بوجود مخططات استهداف لتصفية رئيس الجمهورية وكبار رجال الدولة.
تلك التحذيرات سواءً أكانت مبنية على التوقعات أم المعلومات المؤكدة لم تشمل بالتأكيد تحذير الرئيس الصالح من أداء الصلاة في جامع دار الرئاسة، لأن من المستحيل التكهن بالقيام بالتخطيط والإعداد والتجهيز لتنفيذ عملية اغتيال رئيس الجمهورية ومن معه من المصلين داخل بيت من بيوت الله، لأن ذلك غير معهود وغير مقبول وغير متخيل بكل المقاييس حتى في ضوء الحقائق التاريخية، لم يتجرأ أحد عبر التاريخ على الإقدام على مثله مطلقاً، فأبشع مذبحة جماعية تخلص فيها الحاكم من معارضيه كانت في عهد محمد على باشا حاكم مصر حينما دعا معارضيه لوليمة غداء في قصره ومنع حراسهم من الدخول وأمر بوقوف جندي خلف كل واحد منهم أثناء تناولهم وجبة الغداء، وتكفل أولئك الجنود بنحر رقاب كافة المعارضين في توقيت واحد عقب انتهائهم من الغداء، وأبشع جريمة فردية معاصرة ارتكبها الصهاينة بحق الشيخ المُقْعَد احمد ياسين تمت عقب خروجه من بيت الله بعد أدائه صلاة الفجر، تخيلوا حتى الصهاينة لم يتجرأوا على انتهاك حرمة بيت للعبادة لمن يخالفهم في الدين.
بينما تجرأ مسلمون على ارتكاب مجزرة جماعية بحق مسلمين آخرين داخل بيت من بيوت الله في يوم العيد الأسبوعي للمسلمين وفي شهر من الأشهر الحرم، وفي يوم وشهر له خصوصية لدى المسلمين في (اليمن) العظيم، وبلغت بهم الجراءة على الله أنهم لم يضعوا توقيتاً لتنفيذ جريمتهم أثناء خطبتي الجمعة بل كان توقيتهم لجريمتهم وفق مخططهم الجهنمي أثناء أداء ضيوف الله شعائر الصلاة أي وهم واقفون بين يدي خالقهم راكعين وساجدين لضمان امتثال الجميع لتلك الشعائر، فأي قلوب امتلكتها تلك الشياطين البشرية وأي عقول احتضنتها عظام جماجمهم، وليس ذلك فقط بل وفي نفس التوقيت وفي موضع آخر على امتداد نفس الشارع الذي تم فيه تنفيذ جريمتهم الجبانة المقززة وعقب سماع خطيب جمعة المفترشين للشارع من قطاع الطرق لأصوات الانفجارات المدوية، تنطلق التكبيرات ثم تُعلن البشرى المخزية من فمه بأن فتحاً من الله ونصراً مبيناً مؤزراً قد جرى في تلك اللحظة باستهداف رئيس الدولة ومعاونيه وهم بين يدي الله ضيوفاً علىه في بيت من بيوته.
ومن منا أو منهم يمكنه إنكار أنه لولا حرص الرئيس الصالح وهو المستهدف الأول بتلك المجزرة المخزية عقب تلك الجريمة مباشرة على حقن دماء مواطنيه وتجنيبهم الولوج في طوفان من الاقتتال والاحتراب، لما ألهمه الله وهو بين يديه يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة أن يوجه أوامره لأقرب المقربين إليه من المسعفين الناجين بمنتهى الحسم (ولا طلقة)، وامتثال متلقي الأمر لذلك الأمر وكان بمستطاعه تجاهله تماماً كأن لم يسمعه والمضي في سحق المتآمرين مهما كانت تكلفة ذلك الانتقام، ومما يجدر تذكره في هذا المقام اعتراف أحد قادة أولئك القطاع للطرقات بأنهم كانوا يتوقعون في الحدود الدنيا إن لم يتم تصفيتهم جسدياً بأن يتم القبض علىهم وإيداعهم في غياهب السجون انتظاراً لما سيجري تقريره بشأن مصير كُلٍ منهم وفق ما ستفضي إليه التحقيقات والأحكام القضائية، وجاءت الكلمات التالية التي كان الجميع متعطشاً لها للاطمئنان على الرئيس الصالح وهو مازال على حاله اقرب للموت منه للحياة (إذا كنتم بخير فأنا بخير).
ولعل العدوان الذي مازال يتعرض له وطننا لأكثر من 800 يوم يثبت لكل عاقل حكيم محايد امتلاك قوات الحرس الجمهوري آنذاك القدرة والجاهزية الكاملة على الرد الحاسم والسريع على تلك المجزرة والقبض على المتآمرين وتصفية بؤر الاعتصام وإخماد تلك الفتنة بذريعة ما تعرض له رئيس الجمهورية وكبار رجال الدولة في تلك المجزرة المخزية، وما كان لأحد في الكون أن يفتح فمه باللوم أو العتاب أو الاحتجاج أو الاعتراض ولو بحرف واحد على أي إجراءات استثنائية متخذة في تلك الظروف الاستثنائية، لكن الحكمة والتروي كان سيد الموقف، لتثبت وحدات الحرس الجمهوري أن ولاءها لله ثم للوطن وليس للعائلة الحاكمة، وأنها وحدات نظامية محترفة تأتمر بأوامر قياداتها وليس بردود الافعال الفورية العاطفية التي قد تكون عواقبها وخيمة، رغم أن الكثيرين ممن سيطالع كلماتي سيردد: ألا ليتهم فعلوا، ألا ليتهم فعلوا.. وينسى أولئك أن الكون كل الكون يسير بأمر الله، وما من حدث يحدث فيه إلا لحكمة معلومة لديه مهما غابت عن عقولنا البشرية القاصرة.
|