|
|
|
بقلم الدكتور/ أحمد الأصبحي- عضو مجلس الشورى - لكل صاحب رسالة، وقائد عظيم، وسياسي حكيم، مفتاح لشخصيته يسهل به سبر أغوارها، واكتشاف قدراتها، وتفسير آثارها ومآثرها، واستكناه ما تفكر به لمستقبل أفضل. والأخ الرئيس علي عبدالله صالح، واحد من أولئك القلائل العظام الذين جاد بهم تاريخ اليمن المعاصر، وأزعم أن مفتاح شخصيته الفذة هو الحوار.
والذين التقوه، ويقابلونه من المواطنين والضيوف الأشقاء والاصدقاء، وهم كثرة كاثرة يجدونه مدرسة متميزة بمنهج حواري هادئ وهادف، مفرداته البحث عن الحقيقة، والوصول إليها، وذم احتكارها، واحترام الرأي والرأي الآخر، ونبذ التعصب المقيت.. وخُلُقُه التواضع الجم، والحلم، وتقدير محاوريه، والاستماع الجيد لمعارضيه.. ووسائلُه المجادلة الحسنة وبيان المنطق والحجة، والصبر والأناة.. وغايته الوصول بمحاوريه الى الأهداف النبيلة، والتفاعل الجاد مع الرسالة الوطنية، والطموحات الشعبية.
وشهود مقامه الحواري إنما يُصدرون في إجماعهم هذا عن يقين جسَّده واقع الوطن والشعب والدول، المتسم في عهده بالانجازات التاريخية المتمثلة بالوحدة والديمقراطية والتنمية الشاملة في شتى مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وانعكاسها على السياسة الخارجية لليمن بالمكانة الرفيعة لبلادنا في المنظومات العربية والإسلامية والإقليمية والدولية.
ولقد كان لبراعة الأخ الرئيس في إدارة الحوار، والتمكن من فنونه ومنهجيته الرسالية دور عظيم في الانتقال باليمن الى مرحلة ثرَّة العطاء، طيبة الخيرات، تؤسس لبناء الدولة الحديثة، دولة النظام والقانون والعمران.
فقد أنهى الأخ الرئيس بالحوار الحواجز النفسية التي كانت قائمة بين السلطة والقوى الفكرية والسياسية.. وأثرى بالحوار التجربة الوطنية وعزز جبهتها الداخلية، وأتاح فرص الانسجام والتجانس والامتزاج بين مختلف ألوان الطيف السياسي، وخلصها من كثير من شوائب الانطباعات الخاطئة، ورواسب الانتقاصات المتبادلة، ومكّنها من الالتقاء على الثوابت الوطنية.. وعالج بالحوار حالة الاحتقانات السياسية، وثبَّت مبدأ تعظيم الجوامع واحترام الفروق.. ورسّخ بالحوار قاعدة العمل الديمقراطي السلمي.. ووصل بالجميع الى الاتفاق على ملء الفراغ السياسي بصياغة ميثاق وطني يمثل الحد الأعلى لالتقاء الشعب على مضمامينه، والحد الأدنى بين مختلف القوى السياسية.. وبقيام المؤتمر الشعبي العام كأسلوب للعمل السياسي المنظم، والذي مهد لقيام التعددية السياسية والحزبية وسرّع بالحوار في إعلان قيام دولة الوحدة بتلازم وثيق مع ديمقراطية التعددية السياسية.. وأضاف بالحوار بُعد التنمية السياسية الى بُعدي التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وأضفى على التنمية الشاملة روح المشاركة الشعبية والسياسية، وعزز مؤسسات المجتمع المدني.
وأزاح بالحوار حالة العزلة التي نأت باليمن عن المحيطين العربين والدولي، واستحوذ على احترام الاشقاء والاصدقاء، وتمكّن بالحوار من حل معضلات العلاقات الحدودية مع دول الجوار الشقيقة وجعل من سياسة بلادنا الخارجية مثالاً للعلاقات المتوازنة، القائمة على الاحترام المتبادل، وخدمة المصالح المشتركة.
وبصفة إجمالية فقد تمكن الأخ الرئيس من أن يرسم بالحوار الصورة المشرقة والمشرفة لليمن بكلية أجزائها المؤطرة بالوحدة وبمعالمها الديمقراطية البارزة، وبجماليات التنمية الشاملة ومهابة الكيان والمكانة والتاريخ.
ومنهجية الحوار التي اتسمت بها شخصية الأخ الرئيس منهجية رسالية، انبعثت من بين هموم الشعب واهتماماته وآماله، وآلامه وأناته ومحنه وشدائده التي تعرض لها في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، والتي تنهدُّ لها الجبال.. فقد رشحه القدر إثر ما شهدته اليمن في تلك الفترة الحالكة الكالحة من مصارع زعامات ثلاث في شمال الوطن وجنوبه، وتمكن هذا الزعيم من أن ينجو باليمن ويجتاز بها تلك الفترة العصيبة الى بر الأمان والسلام، ويلج بالوطن والشعب مرحلة جديدة طافحة بالبشر وواعدة بالخير والرفاه.
وما كان لمنهجية الحوار الرسالية أن تغدو مفتاح شخصية الأخ الرئيس لولا أنها نمت معه، وخالطت كيانه منذ نعومة أظفاره، وصارت أصلاً في تكوين شخصيته التي ترعرعت في يمن اليُمن، واغتذت من غلال إيمانها، وارتوت بماء حكمتها.
فسيرة الأخ الرئيس الذاتية تحدثنا عن فرد من عموم أبناء الشعب، نشأ مواطناً بسيطاً في أسرة ريفية فقيرة تنتمي الى الوسط الشعبي الذي عاش شظف العيش، وذاق مرارة الحياة، محروماً من أبسط حقوقه في الصحة والتعليم في ظل الحكم الإمامي المستبد.. ولم يكن من بُدٍّ أمام أبناء جيله إلاّ الاعتماد على النفس مع أسرهم المكافحة، ومكابدة الحياة، وعناء المعيشة.. وقد كان علي عبدالله صالح واحداً ممن عاشوا فترة طفولتهم بلا طفولة، وهذا ما نمَّى فيه الشخصية العصامية، وروح التحدي ومغالبة شدائد الحياة، فتلقى دراسته الأولية في كُتّاب القرية، وارتبط بالأرض فلاحةً ورعياً، ولامست قدماه تربتها، وتوطنت نفسه على محبتها، وارتقت المحبة الى الدفاع عن الوطن، فكان الاهتداء الى الالتحاق بالقوات المسلحة عام 1958م.
وبفضل عصاميته، وعلو همته، وقوة جلده وانضباطه، تدرج في الرتب العسكرية، وشغل مناصب قيادية عسكرية منها:
- قائد فصيل دروع.
- قائد سرية دروع.
- أركان حرب كتيبة دروع.
- مدير تسليح المدرعات.
- قائد كتيبة مدرعات.
- قائد قطاع المندب.
- قائد لواء تعز.
- قائد معسكر خالد بن الوليد «1975-1978م».
وقد كان معروفاً من يومئذ بالتفاعل النشط مع هموم وطنه، وقضايا شعبه، ولم يكن بمعزل عن الأحداث والتحولات والمخاضات التي مرّ ويمر بها الوطن، فقد فرضت عليه وطنيته أن يشارك من مواقعه المختلفة في الدفاع عن الثورة، وتثبيت النظام الجمهوري، وأن يُبلي بلاءً حسناً في فكٍّ حصار صنعاء، الذي ضُرب عليها سبعين يوماً.. ولكأنما كانت المحن والأخطار التي أحدقت بالوطن، مراجل القدر التي هيأت هذه الشخصية العصامية لدور مرتقب عظيم، يحسن فيه قيادة مسيرة النهوض الوطني الشامل، وليعطي صورة القائد المنبعث من بين صفوف الشعب المكافح، وليحمل بين جنبيه قلباً نابضاً بحب شعبه ووطنه، وليغْدُ أحد فوارس أمته في الذود عن حماها، والدفاع عن قضاياها ما استطاع الى ذلك سبيلاً، والمشاركة في بناء مشروعها الحضاري.
لقد أتاح له تدرج الرتب، والتنقل الوظيفي وتنوع الأمكنة أن يخبر الوسطين العسكري والمدني، وأن يحتك بقطاعات واسعة من جماهير الشعب وأن ينفتح على مختلف القوى السياسية والفكرية، ويمد إليها جسوراً من الحوار، حتى لقد ظنه كل فريق منتمياً الى صفه، على أنه كان أكبر من أن يتحيز الى فريق دون آخر لعلمه أنَّ كل فريق يدرك جانباً من الحقيقة، وطالما تاقت نفسه ليرى الجميع على صعيد واحد يتحاورون ليصلوا الى القواسم المشتركة.. فقد كان في طبيعة تكوينه شعبي العشرة يغشى المجالس، ويرتاد المنتديات، ويقترب من مختلف شرائح المجتمع واتجاهاتها، ويتعرف على طرائق تفكيرها واهتماماتها.. وحين استقر عمله قائداً لمحافظة تعز تلك العاصمة الثقافية، جعل من مقره ملتقى للنخب الفكرية والأدبية والسياسية، يتحاورون، ويتناظرون، ويتدبرون أمر الوطن كل من وجهة نظره، ويثرون بآرائهم من يحسن التقاط زُبَد الكلام، فالمجالس مدارس.. ولقد أدرك الرئيس ببصيرته أنّ خير ما ينقذ الوطن من مآزقه السياسية، وأزماته الاقتصادية، وتواتراته النفسية والاجتماعية، هو الحوار بين مختلف القوى والتيارات السياسية والتقاؤها على أمر جامع يؤلف بين القلوب، ويوحد الكلمة، ويلم الشّمل.
وظلت مدركاته الحوارية حبيسة صدره، تنتظر اللحظة التاريخية لتكون مفتاح حكمته الى قلوب أبناء شعبه، وقواهم السياسية والفكرية.. أفصح عن امتلاكه هذا المفتاح لحظة قدومه من موقعه كقائد للواء تعز الى العاصمة صنعاء إثر اغتيال الرئيس أحمد حسين الغشمي رحمه الله، ليشغل عضوية مجلس رئاسة الجمهورية المؤقت، ونائب القائد العام، ورئيس هيئة الأركان العامة.
ففي هذه اللحظات العصيبة وفي ساعة العسرة كان جُل تفكيره منصباً على تهيئة الأسباب لفتح حوار وطني، يفضي الى إقرار ميثاق تلتقي عليه جماهير الشعب، وقواه السياسية والاجتماعية.. وما كان لعظيم قومه في مثل تلك الظروف الحرجة، والمنعطفات الحاسمة إلاّ أن يكون له مثل هذا التفكير الحكيم، والرأي السديد.. وأسجل هنا باعتزاز عظيم من واقع زيارتي له في مكتبه في القيادة العامة للقوات المسلحة، قبل أن يصبح رئيساً، شوقه الشديد الى ذلك اليوم الذي يتحقق فيه هذا المطمح الديمقراطي، وقد كان يحدثني بحماس قوي وإصرار عاهد عليه الله، ويده على المصحف الشريف على أن يعمل على تمكين الشعب من الالتقاء على ميثاق وطني، باعتباره بوابة الانطلاق الى بناء يمن الوحدة والديمقراطية والتنمية الشاملة، وتفعيل أهداف ومبادئ ثورة الـ26 من سبتمبر المجيدة 1962م.. وساعتها أيقنت أن المحنة التي تعرضت لها البلاد إنْ هي إلاّ شدة عابرة، وأن الوطن الى خير، وأن مع العسر يسراً.. فلا شيء يقف في وجه الحكمة والحزم وبُعد الرؤية، وسداد الرأي، وإن كان اعتقاد الكثرة في حينه أن مجرد التفكير بميثاق وطني في مثل ذلك الظرف الحرج إنْ هو إلا ضرب من الخيال، خاصة من خبروا التجارب السياسية السابقة، وما اعترضها من العوائق، لكن الذين خبروا الرئيس وعرفوه عن قرب، سواءً أكانوا من النخبة العسكرية أو المدنية، تأكد لهم أنه كان يعني ما يقول.. وقد رأوا فيه الزعيم المستوفي لعناصر القيادة، والمؤهل لحمل أمانة قيادة الوطن والمتمتع بجسارة القرار في المواقف الصعبة، فكان انتخابه رئيساً للجمهورية وقائداً عاماً للقوات المسلحة من قبل مجلس الشعب التأسيسي، يوم الـ17 من يوليو 1978م، يوماً مهيباً يؤسس لحياة جديدة، فقد شكل بداية لانعطاف تاريخي في مسيرة شعبنا، إذ سرعان ما اتجه به قائد مسيرته الكبرى صوب صناعة فجر ديمقراطي جديد، وبناء الدولة الحديثة والعمل على إعادة تحقيق الوحدة اليمنية، والتفاعل الواعي مع أهداف ومبادئ الثورة اليمنية.. وأخذ يُشمِّر عن ساعد الجد، ويباشر مهامه القيادية متمثلاً روح الشعب، وهمة الأجداد البناة من عمالقة السلف الذين أسسوا مجداً حضارياً أضاء غسق التاريخ.
وكان في طليعة همومه منذ الأيام الأولى لتحمله أمانة قيادة الشعب، العمل على إحداث تنمية سياسية شاملة تسير جنباً الى جنب في خطوط متوازية متكافئة السرعة مع التنمية الاجتماعية والاقتصادية التي تضمنتها الخطة الخمسية الأولى.. وكان لابد له أن يستخدم مفتاح حكمته للعثور على صيغة عملية تتفاعل مع مبادئ الشعب وقيمه وأهداف ثورته.. ولاعتقاد الأخ الرئيس أن الديمقراطية لا تمثل مطلباً فردياً، ولا يمكن أن تترك لاجتهادات ربما جانبها التوفيق،.. فقد كان توجهه الى الشعب من خلال جميع فئاته: علماء ومفكرين، ومشائخ وعسكريين ومثقفين وغيرهم.. يستمزج آراءهم وأفكارهم في أنسب وسيلة، وأسلوب عمل لقيام حوار وطني شامل يُتَفق فيه على صيغة عملية لميثاق وطني، تُجسِّد بالمشاركة الفعلية إرادة الشعب وتطلعاته.
وابتدأ مشوار الحوار الوطني، وبدايته في أواخر عام 1978م، حين أوكل الأخ الرئيس الى لجنة من المفكرين والعلماء والمثقفين من داخل مجلس الشعب، وخارجه، وضع مسودة أولية لمشروع ميثاق وطني كمادة خام تطرح للنقاش، وأخذت فترة كافية أنجزت فيها صياغة المسودة وسلمتها الى الأخ الرئيس، لينتقل بالمسودة الى الخطوة الثانية من الحوار، فعقد لمناقشتها اجتماعاً موسعاً ضم أعضاء مجلس الوزراء، والقيادات العسكرية، والمحافظين، والهيئة العليا للاتحاد العام لهيئات التعاون الأهلي للتطوير، وأثريت بالعديد من الملاحظات والافكار العملية النابعة من بيئة الواقع التطبيقي، وخبرات مؤسسات الدولة واحتياجات ومتطلبات التنمية الشاملة.. وأحيلت هذه الاضافات والتعديلات على اللجنة التي صاغت المسودة الأولية لمشروع الميثاق، وأخذت وقتاً كافياً لإعادة الصياغة في ضوء ما طرح في الاجتماع الموسع.. وأضحت المسودة مشروعاً ناجماً عن مشاركة أوسع، وآراء أكثر.. لكن ذلك لم يكن سوى البدايات التي اشتملت عليها المنهجية الحوارية التي اتخذها الأخ الرئيس، وجعل منها مدرسة متميزة.. فقد رأى أن القوى السياسية والفكرية مازالت مغيبة من الحوار، وهي التي كان قبل أن يصبح رئيساً يرجو لو أنها تلتقي يوماً ما على صعيد حواري وطني شامل، توحد الجهود وتُعظِّم الجوامع، وتحترم الفروق، وترسخ لشرعية الاختلاف، وتنطلق لبناء الوطن من وحي ما توصلت إليه.
وها هي الفرصة باتت مواتية لاختبار القوى السياسية والفكرية واستحثاثها لعلم وطني عظيم، وكان القرار الحكيم بمشاركة مختلف ألوان الطيف السياسي.. فصدر القرار الجمهوري رقم «5» لسنة 1980م القاضي بتشكيل لجنة الحوار الوطني، والتي ضمت في عضويتها خمسين مشاركاً على اختلاف اتجاهاتهم وانتماءاتهم السياسية والفكرية للبحث عن أنسب صيغة لملء الفراغ السياسي والتنظيمي.. وأحيلت إليها مسودة المشروع الأولي المعدلة.
واجتمعت لجنة الحوار الوطني، وقد وُفِّر لها كامل شروط الحوار: حرية تامة، وشفافية عالية، وزمن مفتوح لجدية متواصلة وحوار مسئول، واحترام كامل لكل رأي يطرح، فلا محاسبة على فكرة غريبة، ولا مصادرة لرأي، ولا تلقين فيه ولا إملاء، ولا وصاية، ولا استماع لوشاية، ولا قرارات جاهزة وصياغات معدة مسبقاً، متحرر من الحوارات الصورية، والسرادقية الشكلية التي يصدق فيها قول الشاعر:
حكوا باطلاً، وانتضوا صارماً ٭٭ وقالوا: صدقنا، فقلنا: نعم
وبالشروط والمناخات الكاملة للحوار، اجتمعت لجنة الحوار الوطني ولأول مرة في تاريخ اليمن المعاصر بمختلف ألوان الطيف السياسي على صعيد واحد، بعد أن كانت متنافرة، متباعدة، متباغضة، متناحرة، متحاربة، يُخطِّئُ بعضها بعضاً، ويستنفد الجميع الكثير من طاقاته وقدراته، وجهده ووقته في تبادل التهم، واستكثار الذات، بينما لا يمتلك كل منها على هذه الحال سوى جزء يسير من الحقيقة المبعثرة.
وكانت حكمة القائد المحنك في السلوك بهذه القوى الحيّة في منهجية حوارية، تستأصل شأفة الاحقاد والضغائن من الصدور، وتؤلف بين القلوب، وتجمعها على كلمة سواء.
ومن الطبيعي أن تشهد الاجتماعات الأولى للجنة الحوار الوطني حالة من التوترات والانفعالات التي اصطحبها كل طيف سياسي من تأثيرات التخندق والتمترس ضد بعضه بعضاً، ثم ما لبثت أن هدأت الأنفس، وسكنت عواصف الإثارات والعواطف، وأخذت تظهر محلها قيم حوارية ترسخت شيئاً فشيئاً حتى غدت سلوكاً تزهو به الحكمة اليمانية.
فخلال فترة الحوار الوطني التي استغرقتها اللجنة قرابة العامين تحقق الكثير مما كان يرمي إليه الأخ الرئيس في منهجيته الحوارية، ومن ذلك توصل الجميع الى:
- الايمان بشرعية الاختلاف.
- ترسيخ مبدأ احترام الرأي، والرأي الآخر.
- البحث عن الجوامع المشتركة، واحترام الفروق.
- القبول بالحد الأدني من المبادئ التي يلتقي عليها الجميع في صياغة نظرية للعمل الوطني.
- الاتفاق على الثوابت الوطنية التي لا يختلف عليها اثنان.
- نبذ التعصب والتطرف.
- السعي نحو الاعتدال والوسطية، والتوازن.
وبهذه الروح مضت لجنة الحوار الوطني تنجز مهمة صياغة مشروع الميثاق الوطني، وقد سخّرت مختلف وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة، الرسمية منها وغير الرسمية لحوار مفتوح، وسّع مجال المشاركة على مستوى الوطن شماله وجنوبه، وقد أفادت منه اللجنة في صياغة مسودة المشروع، وتقدمت بها الى الأخ الرئيس.
ومرة ثالثة لم يتوقف الأخ الرئيس عند الصياغة التي تمّ التوصل إليها من قبل لجنة الحوار الوطني والتي اشبعتها نقاشاً مستفيضاً، وجدلاً واسعاً، وحواراً معمقاً،.. فإن منهجية الحوار التي ابتدعتها حكمة الأخ الرئيس أوسع مدى، وأبعد عمقاً.. إنها تمتد الى مشاركة جماهير الشعب بآرائها.. وفي مشاركتها القول الفصل.
ولكن ما هي الآلة المناسبة التي يمكن اتباعها لمشاركة فعلية من قبل جماهير الشعب؟
لقد كان الاهتداء الى تكليف لجنة الحوار الوطني القيام بتفريغ نصوص مسودة المشروع في ورقة استبيان، تُستفتى على تفاصيلها الجماهير بتقسيمها الى مؤتمرات شعبية مصغرة عمت جميع البلاد، وقد اجتمعت هذه المؤتمرات على مدى أسبوع تُقدِّم آراءها بالإضافة أو التعديل أو الإقرار.. وقامت لجنة الحوار الوطني بجمع أوراق الاستبيان، وكُلِّفت مرة أخرى بإعادة صياغة المسودة في ضوء نتائج هذه الأوراق.. وأضحت الصياغة بصورتها النهائية لمشروع الميثاق الوطني.. وقد وضعت بين يدي الأخ الرئيس، وكان يعتقد أنها ستكون خاتمة المطاف.. لكن منهجية الحوار التي ابتكرها الأخ الرئيس، قضت ألا تعتمد إلاّ بحوار شعبي عام يتوج جهد السنوات الأربع، ويفضي الى انتهاج أسلوب للعمل السياسي يقر الميثاق بصيغته النهائية، ويحميه ويطبقه، ويبني عليه برامج العمل السياسي.. فكان أن أصدر الأخ الرئيس القرار الجمهوري رقم 19 لسنة 1982م.. الخاص بقيام المؤتمر الشعبي العام، وتحديد عضويته بألف عضو، يتم انتخاب 70% منهم، في المؤتمرات الشعبية المصغرة، وتعيين 30%من قبل الدولة، وانعقد المؤتمر العام الأول، وقدمت إليه الصياغة النهائية لمشروع الميثاق، وتم إقرار الميثاق بصيغته النهائية خلال فترة انعقاد المؤتمر من 24-29 أغسطس 1982م، وأقر المؤتمرون في الوقت نفسه استمرار المؤتمر الشعبي العام أسلوباً للعمل السياسي، وانتخب الرئيس أميناً عاماً للموتمر في 30 أغسطس 1982م.. وأقر النظام الداخلي للمؤتمر، وبرنامج العمل السياسي.. وتشكلت اللجنة الدائمة للموتمر وأمانة سرها، واللجان المتخصصة، واللجنة العامة.. ومارس المؤتمر دور الاضطلاع بمهمة التنمية السياسية، والمشاركة في صنع القرار.
لقد أحدث قيام المؤتمر الشعبي العام تحولاً نوعياً في نمط الحياة السياسية، وأفسح قيامه المجال واسعاً أمام تعددية المنابر في داخله، وترتب على ذلك تقليص حجم العمل الحزبي في الخفاء، والحد من الصراع في ما بين الأحزاب من جهة، وبينها وبين السلطة من جهة أخرى، وأدى قيام المؤتمر كذلك الى الدفع بعمل لجان الوحدة، وتشكيل لجنة التنظيم السياسي الموحد مع نظيره الحزب الاشتراكي.. وكان لقيام هذه اللجنة دور التسريع في بلورة فكرة الأخذ بنظام التعددية الحزبية والسياسية فور إعلان قيام دولة الوحدة.
وهكذا حقق الرئيس القائد أول آماله الوطنية الكبرى في ملء الفراغ السياسي والتأليف بين ألوان الطيف السياسي، وتخليصها من حالة التنافر لتلتقي حول ميثاق وطني أسهم الجميع في صياغته، واتخاذه معالم على طريق النهوض الوطني الشامل.
وفيما ظل المؤتمر الشعبي العام يتوسع بعضويته، ويراجع نظمه ولوائحه الداخلية، ويعقد دوراته الاعتيادية والاستثنائية قبل وبعد قيام دولة الوحدة، التي عمَّت فيها تكويناته ونشاطاته مختلف محافظات الجمهورية، ويسهم بفاعلية عالية ومتميزة في نشر الوعي السياسي، وترسيخ الوحدة الوطنية، والاحتفاظ بموقع الريادة.. لم يُغفل الأخ الرئيس الاهتمام بمجالات البناء والتنمية، وهي التي تشكل غاية الحوار، ومحور منهجيته، فكان أن التفَتَ الى تعزيز الحياة الديمقراطية، وتكريس المشاركة الشعبية في صنع القرار من خلال المؤسسات التشريعية، والتعاونية والمجالس المحلية ومنظمات المجتمع المدني.
ففي عام 1979م، صدر الاعلان الدستوري الثالث القاضي بتوسيع اختصاصات مجلس الشعب التأسيسي، وزيادة عدد أعضائه من «99» عضواً الى «159» عضواً، واستحث مختلف الكفاءات العلمية والتقنية والفنية، والقدرات المتخصصة لبذل أقصى وتائر الجهد للمضي في تنفيذ الخطة الخمسية الأولى، محدداً أولويات العمل الوطني في مختلف مجالات التنمية الشاملة.
وعلى الرغم مما كان يعترض مسيرة البناء والتنمية من معوقات وإشكالات، فإن حكمة القائد كانت أقوى من كل العواصف، واستطاع أن يحيل نتائج حرب 1979م، بين شطري اليمن قبل الوحدة الى إنجازات سلمية، تمثلت بتنشيط عمل لجان الوحدة، وتغليب منطق الحوار السلمي، وتحكيم العقل عوضاً عن اللجوء الى العنف والحرب.. وظلت أهداف الثورة اليمنية نصب عينيه يجسدها في واقع الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعسكرية.
ولم يتوانَ لحظة عن أن يولي العمل النيابي، والتعاوني والنقابي عناية خاصة ويتعهد آلياته بالنماء، إيماناً منه بأنها القنوات الطبيعية لتعبير المواطن عن حقه في المشاركة السياسية والشعبية، وبأنها السبيل الأنسب للارتقاء بالحياة السياسية، والدفع بعجلة التنمية الاجتماعية والاقتصادية وبناء الدولة الحديثة.
نقرأ عنايته الخاصة هذه في انتظام الانتخابات الدورية للمجلس النيابي في مواعيدها، فقد جرى انتخاب أعضاء مجلس الشورى، في يوليو 1988م، وسارت العملية الانتخابية بنجاح تام، شهد المراقبون العرب والدوليون ينزاهتها وسلامتها.
وبعد قيام دولة الوحدة، وفي ظل التعددية السياسية استمر انتظام الانتخابات الدورية وآخرها انتخابات الدورة النيابية الثالثة في 27 أبريل 2003م.
ومثلت انتخابات الهيئات الادارية للمجالس المحلية للتطوير التعاوني في أكتوبر 1985م، اضافة وطنية الى رصيد العمل الديمقراطي التنموي، ولم تقتصر مهامها على الأعمال الخدمية، ومشاريع التنمية المحلية فحسب، بل أسهمت كذلك في صنع القرار المحلي، وممارسة مختلف أشكال النشاط الاجتماعي، وحل القضايا المحلية، وتعزيز الجبهة الداخلية.
ومن أجل تحقيق المزيد من المشاركة السياسية لرموز الوطن، والذين لديهم الخبرة العملية في الحياة السياسية، صدر القرار الجمهوري عام 1989م الخاص بتشكيل المجلس الاستشاري ليسهم في دراسة القضايا الداخلية والخارجية ذات العلاقة بالمصلحة الوطنية العليا للبلاد، وقداتسعت عضويته بعد قيام دولة الوحدة، ثم أضحى مجلساً للشورى.
وأخذت المنظمات الشعبية والجماهيرية في الاتساع الأفقي والرأسي، والتطور الكمي والنوعي، وقام العديد من الاتحادات والنقابات والجمعيات، وشملت مختلف القطاعات العمالية والمهنية والحرفية، الى جانب الجمعيات الزراعية والخيرية والعلمية والاسكانية.. وتشكل ما يزيد على «15» نقابة عمالية تم على أساسها تشكيل الاتحاد العام لنقابات عمال الجمهورية.
وشملت النقابات والاتحادات المهنية مختلف التخصصات، وبلغت «17» نقابة واتحاداً، وتحقق في المجالات الثقافية والاجتماعية والخيرية، إنشاء العديد من الجمعيات منها خمس جمعيات نسائية، وخمس جمعيات ثقافية واجتماعية وصحية وخيرية، و«24» جمعية حرفية ونوعية.. أما الجمعيات التعاونية الزراعية فقد بلغ عددها «100» جمعية، وتجاوز عدد المنظمات الجماهيرية «300» منظمة شملت العاملين والمتخصصين في مختلف المجالات.
|
|
|
|
|
|
|
|
|
تعليق |
إرسل الخبر |
إطبع الخبر |
معجب بهذا الخبر |
انشر في فيسبوك |
انشر في تويتر |
|
|
|
|