طه العامري - يهل علينا الشهر الكريم (شهر رمضان الذي انزل فيه القران هدى ورحمة) وشعبنا وأمتنا العربية والإسلامية يعيشون في آتون أحداث وأزمات مركبة ومعقدة ويكاد الناس فيها أن يفقدوا كل أمانيهم وتطلعاتهم وأحلامهم بابسط مقومات الحياة الآمنة المستقرة والتلاحم والترابط الاجتماعيين..
ففي بلادنا _ اليمن _ التي تعيش منذ العام 2011م في خضم أزمة سياسية تطورت إلى خلافات وصراعات ثم احتراب داخلي وعدوان خارجي وحصار ودمار شمل مختلف المناحي الحياتية مشفوعا بتمزيق للنسيج الاجتماعي وانقسام غير مسبوق شمل مختلف الشرائح والطبقات الاجتماعية، وهو الانقسام الذي جبل بثقافة (الحقد والكراهية) والرغبة العارمة حد الجنون بإلغاء الآخر، وذهاب البعض للاستقواء بالخارج قبل أن يصبح خلافنا الداخلي جزءا من صراع محوري ذا أبعاد إقليمية ودولية كنتاج طبيعي لفشل واخفاق النخب السياسية والحزبية والثقافية ومعها الوجاهات الاجتماعية، ليذهب الجميع في رحلة البحث عن (الذات) بمعزل عن الذات الوطنية والمصلحة الجمعية للوطن والشعب..
غير أن السنوات المنصرمة من عمر الصراعات النخبوية بما تخللها من الحرب والعدوان والحصار والظروف الاقتصادية التي أجبرت مجتمعة شعبنا بقطاعاته الواسعة بأن يتحول من شعب منتج إلى شعب تائه في النطاقات الجغرافية الوطنية يعيش (عالة) على مكارم اللئام يترقب آخر كل شهر فتات الصدقات الأممية المجبولة بكل مفردات الذل والمهانة ورغم كل ذلك لايبدو بعد السنوات التسع العجاف أن هناك ثمة وعي أو مشاعر إنسانية تستوطن فرسان الأزمة واباطرة العدوان الذين جعلوا من اليمن الارض والإنسان مسرحا يتماهي مع مسارح (مصارعة الثيران)؟!
هذا العام يهل علينا الشهر الكريم بتداعيات مضاعفة إلى ما كنا عليه في الأعوام السابقة، هذا العام يأتي الشهر الكريم بجوائح مضاعفة تمثلت بجائحة السيول الجارفة وجائحة اخطر من كل الجوائج السابقة التي نعيشها منذ سنوات وهي جائحة ( كورونا ) التي نرجو الله ونبتهل إليه ونتوسله أن يجنبنا ويلاتها وان يبعد عنا كابوسها مؤمنين بالقول الماثور (أن الله لا يجمع بين عسرين) إذا اعتبرنا أن الأمطار الغزيرة وايا كانت تبعاتها تحمل لنا الخير والرحمة، ورغم ما لحق أبناء شعبنا وممتلكاتهم من هذه السيول إلا أن إيماننا يدفعنا يقيناً لتمثل قوله تعالى (عسى أن تكرهوا شيئا وهو خيراً لكم) وفي رحمة ربنا يأتي الخير وان كان مؤلما غير ان في إيلامها رسائل لكل مؤمن ومتقٍّ وراج عفو الله ورحمته.
بيد أن التأمل في منظومة هذه التداعيات كظواهر تجبرنا على التوقف ومراجعة مواقفنا وما توسوس به نفوسنا الإمارة بالسوء واطماعنا الذاتية التي تقودنا نحو الهلاك الحتمي من خلال الإيغال في الانتصار لذاتنا الفردية على حساب الذات الوطنية المفترض أن نعمل لأجلها ونغلب في سبيلها كل نوازعنا ونقهر المصلحة الفردية أيا كانت (سياسية أو حزبية أو طائفية أو مذهبية أو قبلية أو فئوية) من أجل الانتصار للذات الوطنية والمصلحة الجمعية ونعود لدائرة الوعي وندرك أن الوطن يتسع للجميع دون استثناء وان الواجب الديني والوطني والدستوري والأخلاقي والحضاري يستدعي منا العودة لرشدنا والقبول ببعضنا والتفاهم على كيفية أن نحافظ على دماء شعبنا وسلامة جغرافيتنا الوطنية وان نفكر بعقول متقدة وقلوب مفتوحة وصادقة في كيفية تحقيق السكينة والاستقرار لشعبنا والحفاظ على وحدتنا الجغرافية والمضي قدما في تحقيق الازدهار الوطني لليمن الارض والإنسان وتنمية القدرات وتجاوز الحسابات الضيقة، علينا أن نحاور بعضنا ونؤمن بحق بعضنا بالمواطنة والعدالة والمساواة والحقوق والواجبات وفق عقد اجتماعي يحافظ على حقوق وحرية الجميع وايضا يلزم الجميع بالواجبات بعيدا عن ثقافة التهميش والانتقاص والالغاء والتفرد.
ان الشهر الكريم يهل علينا بصورة مختلفة عن كل الأشهر السابقة له التي قابلناها في ظل العدوان والحصار والتذلل للغير، لكن هذا العام تضاف إليه جائحة الوباء العالمي (كورونا) التي عجزت أمامه أعتى أنظمة العالم وأكثرها قدرة واقتداراً وإمكانات ومقومات، فيما نحن وان تحدثنا عن استعداد وتجهيزات وبدأنا على وسائلنا الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي نتحدث عن طرق الوقاية من باب الخوض مع الخائضين وتقليدهم إلا أننا للاسف إن قدر الله وتفشى هذا الوباء في اوساطنا فإن الله وحده هو العالم بما سيحل بنا وكيف سيكون مصيرنا..
وعليه يفترض أن يكون هذا الوباء قد فتح ثغرة في عقول أصحاب القرار من شأنها أن تحرك في عقولهم دوافع الإحساس والشعور بالمسئولية الوطنية والتاريخية والإنسانية والحضارية، ففي الاخير على صناع القرار الوطني أن يدركوا أنهم أمام مسئولية تاريخية وان مصير هذا الوطن وشعبه ومقوماته المادية والمعنوية أمانة في رقابهم وهم مسئولون ومساءلون عنها أمام الله الذي يمهل ولا يهمل، نعم هذا الشعب وبغض النظر عن مواقفه واصطفافه إلى جانب هذا الفريق أو ذاك هو في الاخير شعب ذو حضارة وتاريخ وكرامة وليس مجرد (قطيع) يساق الى حيث يريد ويرغب (الرعيان)؟!
إن الشهر الكريم على الأبواب وعلى من بيدهم قرار الحل والعقد ممن ولاهم الله الأمانة والمسئولية، عليهم جميعا أن يراجعوا مواقفهم ويغلبوا مصلحة الشعب والوطن على مصالحهم، وأن يدركوا أن الوطن لجميع أبنائه ومن المستحيل أن يتفرد به فريق دون الآخرين، ولا فئة دون بقية المكونات الاجتماعية ولنأخذ جميعا العبرة من أحداث تاريخية سابقة تقاتلنا فيها وكلنا لبعضنا التهم خلالها لكن في النهاية جلسنا معا على طاولة حوار واحدة، فهل بالإمكان أن نجلس ونحاور بعضنا بعقول مفتوحة وصادقة وبمشاعر تؤكد واحدية الهوية والانتماء، وان نقوم بذلك بدافع من أنفسنا وحصيلة لقناعتنا وايماننا بأننا ننتمي جميعا لهذا الوطن بدلاً من أن نفعل ذلك بعصا وأوامر الخارج كما حدث سابقا أيضا..؟!
هل آن الأوان بعد كل هذا الخراب والدمار والجوع والفقر والنزوح والتشرد والاغتراب والإذلال،ان نعود لرشدنا على الأقل لنقف صفا واحدا في مواجهة جائحة خطيرة عجزت أمامها اقوى وأغنى الدول وأكثرها تطورا وتقنية..؟!
إننا أمام شهر رمضان شهر التوبة والمغفرة والرحمة والاستجابة والعتق من النار وهو يأمرنا بالتراحم والتواصل والبر ببعضنا والتسامح لبعضنا،فهل نرتقي بمواقفنا إلى مستوى زعمنا بالإيمان والتوحيد واتباع تعاليم الخالق ؟ ام أن كل شيء فينا وفيما نقوله مجرد مزاعم وشعارات وأننا نقول بأفواهنا ما ليس في قلوبنا دينياً ووطنياً وانسانياً..؟؛
ألا يكفي هذا الشعب ما حل به طيلة السنوات الماضية ؟ ألا يكفي حرباً ونزيفاً وعدواناً وحصاراً وموتاً مجانياً وجوعاً وفقراً وتشرداً ونزوحاً وتذللاً واستجداء الصدقات والمعونات من أعدائنا..؟!
هل بإمكاننا أن نصوم رمضان التاسع بهدوء وسكينة وانفراج وبمعزل عن سابقيه ؟!
ان قتالنا لو امتد لألف عام قادمة سينتهي بالحوار مع بعضنا والتفاهم مع بعضنا، فيما العدوان والحصار سيتوقف وسينتهي والافضل لجيراننا أن يدركوا أن لا قوة في هذا الكون قادرة على محو جرائمهم القديمة والجديدة بحق شعبنا،وان يدركوا أن هذه المواقف التي يقفها شعبنا على مدى سنوات في مواجهتهم ما كان لها أن تكون لولاء الذكريات السابقة رغم أن بعضنا انحاز لصفهم لدوافع وأسباب متباينة، ومع ذلك عليهم أن يتصوروا لو أن هذا العدوان حدث من قبلهم قبل الخلاف والاختلاف والصراع الداخلي، فقط عليهم أن يتأملوا كيف سيكون حالهم لو أن شعبنا واجههم بقدرته الواحدة والموحدة، عليهم أن يفكروا بهذا ويتركوا متسعا للجوار والتعايش للقادم من العقود والأزمنة..؟
|