أحمد غيلان -
ونحن على مقربة من اكتمال (18) عاماً من الحياة الديمقراطية في ظل الوحدة ما زالت تفاصيل الحراك السياسي ومعها مفردات الخطاب الإعلامي تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن أولى وأكبر وأخطر معوقات النهج الديمقراطي تتمثل في مجموعة من العقليات التي لم تستوعب ماهية المتغير الجديد في حياتنا "الديمقراطية " واشتراطات وأصول التعاطي مع هذا المتغير الذي يعني - ضمن أهم ما يعنيه – العدالة .. التعدد .. الحوار .. الاعتراف بالآخر .. الاحتكام للأغلبية الجماهيرية .. احترام الإرادة الجماعية .. وقبل كل هذا سيادة القانون كمرجعية ملزمة عند أي خلاف يصل حد الاختلاف الذي قد يصعب ذوبانه على طاولة الحوار . ثمة عقليات تحتل مواقع متقدمة في واجهة العمل السياسي الحزبي ، الإعلامي ، المنظماتي ، الجماهيري ، وحتى التنفيذي في بعض المؤسسات والمرافق والجهات الحكومية ولسنا هنا بصدد مناقشة كيفية وصول هذه العقليات إلى الواجهة لأننا – نحن جيل الوحدة والديمقراطية – أتينا عليها أو أتت علينا وهي في الواجهة منذ عهد ما قبل الديمقراطية والتعددية والوحدة . لكننا ونحن نعيش عهد الممارسة الديمقراطية وعصر تدفق المعلومات والمعارف والانفتاح على تجارب الآخرين نكتشف كل يوم جديداً يؤكد لنا أن واجهاتنا – نخبنا – قياداتنا – مواقع صنع ملامح الحراك ومفردات التحرك في أوساطنا تكتظ بأخطر مخلفات الماضي الشمولي ، المتمثل في عقليات شمولية متسلطة ، مسكونة بثقافة الإقصاء والنرجسية ومشاعر العظمة وظنون امتلاك القوة الخارقة والحقيقة الكاملة والمواهب التي لا حدود لها ، والقدرة على العمل والعطاء والإبداع والإفتاء والحسم والقول الفصل في كل شيء .. وتابعوا معي – إن أردتم – بعض الشواهد والمشاهد في واقع يفترض أن (18) عاماً من الحياة والتجارب والممارسات الديمقراطية قد طهرته من وباء الشمولية وأمراض ( الأنا ) وثقافة ( من ليس معي فهو ضدي ) ومنهجية التنافس وفق قاعدة ( ياقاتل يا مقتول ) ولكنه – أي الواقع – ما زال هكذا: أحزاب تتنطع بالإصلاح الشامل وتتغنى بشعارات الديمقراطية وهي تمارس كل ما هو ضد الصلاح وضد الديمقراطية . مرشح يخرج من الانتخابات الرئاسية مهزوماً بإرادة جماهيرية ليجوب المدن والقرى والتجمعات ليخطب في الناس داعياً إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية بعيداً عن الدستور والقانون ونتائج الانتخابات والمؤسسات الدستورية . مسئول لا يكاد يستقر على الكرسي الذي يتعين فيه حتى تسمع وتقرأ تصريحاته وخطاباته التي يؤكد فيها أنه سيبدأ العمل في هذا المرفق أو هذه الوزارة " من الصفر "... آخر فقد مصلحة أو منصباً أو دارت عليه دائرة التداول السلمي للمنصب أو الوظيفة فإذا به ينحرف (180) درجة عما كان عليه قبل أن يفقد وظيفته توجهاً وخطاباً وفلسفة وتنظيراً . متنفذ لديه قناعة مطلقة بأن السلطة والنفوذ والقوة والوجاهة أشياء تجب ماعداها من مفردات التعايش . قيادات حزبية ترى ما لايرى الآخرون وتدعي إنتماءاً وتشيعاً للديمقراطية وهي تمارس ما تمارس من أعمال وسلوكيات بذات العقليات التي أتت بها من عهود الشمولية والإقصاء . أدعياء حرية وتحرر لا يجدون حريتهم إلا في القفز على الضوابط والتشريعات ومخالفة المألوف والمعروف وتجاوز كل الحدود والخطوط وخرق الدستور والقوانين التي كفلت لهم -كما لغيرهم –الحقوق التي ليس منها على الإطلاق الاعتداء أو السطو على حقوق الآخرين . ديمقراطيون لا يؤمنون بالديمقراطية إلا إذا كانت نتائجها مشفوعة بمصالحهم وانتصاراتهم وما يشبع نزواتهم ، وما عدا ذلك فليس من وجهة نظرهم -التي لا يعترفون بغيرها -سوى تدليس وضحك على عقول الناس. باختصار شديد كان الخطر الأول الذي خشينا منه على الديمقراطية قبل (18) عاماً هو تلك الفتاوى الدينية التي اعتبرت الديمقراطية كفراً وزندقة ، واليوم وبعد أن تجاوزنا تلك الفتاوى وآثارها ودخل أصحابها مضمار الحراك الديمقراطي ، يتضح لنا أن أخطر الأخطار التي تتهدد الديمقراطية هي الممارسات الفوضوية التي تُقترف تحت شعارات الديمقراطية ... وأخطر منها ممارسة الديمقراطية بعقليات وثقافات ومنهجيات شمولية إقصائية موغلة في الكفر بالتنوع والتعدد والرأي الآخر...!