أمين الوائلي -
لا أعرف كم من المُنظَّمات المُخالفة استطاعت وزارة الشُّؤون الاجتماعية والعمل أن تطلبها إلى القضاء وتُواجهها في المحاكم بمُخالفاتها وتجاوزاتها، التي أكَّدت الوزارة ذاتها، مراراً وتكراراً، أنَّها بصدد رفعها إلى المحاكم؟ لكنَّ مسؤولي الوزارة المذكورة لا يزالون يُؤكِّدون ويُعلنون على الملأ أنَّ أكثر من ألف وخمسمائة مُنظَّمةٍ وُجِدَتْ مُتورِّطةً في مُخالفاتٍ بائنةٍ وتجاوزاتٍ خطيرةٍ للقانون، وأنَّ الوزارة تُعدُّ لشطبها وسحب تراخيصها بأحكامٍ قضائية.
مُنذُ أكثر من ثلاثة أعوامٍ وأنا أسمعُ وأقرأُ ذات المضامين ونفس التهديد والتأكيد، ولم يتغيَّر شيءٌ على الإطلاق، فبعد ثلاث سنواتٍ لا يزال الأشخاص أنفسهم في الوزارة نفسها يُعيدون الكلام نفسه، تماماً كما في كُلِّ مرَّة!
وأسأل بصدقٍ وحرصٍ : «ألم يجدّ جديدٌ خلال أعوامٍ ثلاثة؟»، أقلُّه أن يتغيَّر الرقم، إلى الأعلى أو الأسفل، لا يهمّ، المُهمُّ أن لا تبقى الأُمور مُتجمِّدةً عند نُقطةٍ بعينها، رغم مُرور كُلّ هذه الفترة، هذا أوَّلاً، وثانياً، إذا كانت الوزارة المعنية مُتأكِّدةً من كلامها، وأنَّها رصدت وتأكَّدت من مُخالفة ألف وخمسمائة مُنظَّمةٍ مدنيةٍ للقانون، وأنَّ المُخالفات والتجاوزات توزَّعت على أبوابٍ عدَّة وخطيرة، من ضمنها تلقِّي أموالٍ طائلةٍ من جهاتٍ خارجيةٍ ولا يتمّ إشعار الوزارة بها، وأيضاً لا يتمّ تزويد الوزارة بتقريرٍ مُفصَّلٍ آخر كُلٍّ سنةٍ ميلاديةٍ عن مصارف وأوجه إنفاق المُنظَّمات لتلك الأموال والمبالغ بحسب اللَّوائح المُنظِّمة، إضافةً إلى أشياءٍ أُخرى، ورُبَّما أخطر من ذلك، فلماذا تكتفي الوزارة بالتهديد عبر الإعلام والصحافة ولا تُمارس واجباتها ومسؤولياتها التي يُخوِّلها القانون؟!
قيل كلامٌ كثيرٌ وخطيرٌ في هذا الباب، ولا يزال يُقال، وفي مُقابلةٍ أجريتها قبل أكثر من عامين مع وكيل الوزارة، كشف لي وللجُمهور معلوماتٍ تتعلَّق بطائفةٍ واسعةٍ من الخُروقات والانتهاكات التي تقترفها مجموعةٌ كبيرةٌ من مُنظَّمات المُجتمع المدني المُرخَّصة، وأنَّ الوزارة تمتلك إحصاءً شاملاً مكَّنها من حصر وتحديد العدد المذكور من المُخالفين، الذين هي بصدد مُقاضاتهم وإلغاء تراخيص عملهم.
لم تكُن تلك المرَّة الأُولى ولا الأخيرة التي قيل خلالها كلامٌ مُشابه، وخلال عشرات المُقابلات الصحفية واللِّقاءات الإعلامية والندوات والمُؤتمرات والتصريحات، طُرح الكلام نفسه دُون زيادةٍ أو نُقصان، ومن المُثير للتساؤلات ألاَّ تُبدِّل الجهة معلوماتها، وألاَّ تقول بعد ذلك أنَّها باشرت بالفعل إجراءات المُلاحقة القضائية، خُصوصاً وأنَّ الكلام تضمَّن إشاراتٍ إلى مُخالفاتٍ تطعن في النزاهة المدنية والمالية، ورُبَّما تطرَّق إلى جوانب أُخرى لها صلةٌ بالأمن والسلام الاجتماعي وما في هذا المُستوى والحُكم.
إذ ذاك وجب علينا إمَّا اتِّهام الوزارة بالتقصير في واجبها، أو اتِّهام معلوماتها، وأنَّ الكلام الذي قيل ويُقال أقرب إلى الاستهلاك الإعلامي منه إلى الكفاءة الوظيفية والمهنية، ولا أُرجِّح واحداً من الأمرين، بل أقول لعلَّ الوزارة تتأخَّر كثيراً في إيضاح الصُّورة وإعلان المُستجدَّات على الرأي العام، ورُبَّما يلزمها أن تستدرك كُلّ ذلك بطريقةٍ عمليةٍ باتَّةٍ تقطع شكَّ الإعلام بيقين الشفافية والوضوح، والجدِّيَّة بكُلِّ تأكيد، حتَّى لا تضيع الحقيقة وتكثر الأصنام والأوصياء حولها وعليها!
وأستغربُ أن تقول الوزارة ومسؤولوها أنَّها غير قادرةٍ على توفير النفقة اللاَّزمة لمُوظَّفيها ومندوبيها في مكاتب المُحافظات والعاصمة من أجل مُتابعة الإجراءات اللاَّحقة والذهاب إلى المحاكم والقضاء والنيابات المُختصَّة؟!
وَلَكُمْ أن تتصوَّروا شيئاً كهذا : يظلُّ المُجتمع المدني الناشئ والملغوم عُرضةً للانتهاك والاختراق والسرقة والابتزاز والمُتاجرة والمُخالفات المُؤذية، ويستمرَّ الحال على ما هُو عليه، رغم إدراك ومعرفة ورصد الجهة المُختصَّة، لمُجرَّد أنَّ وزارةً بحالها غير قادرةٍ على مُواجهة نفقات التقاضي وبدل المُواصلات وخلافه لمندوبيها ومُوظَّفيها في المكاتب المُختلفة حتَّى يُمكن تطبيق القانون ومُقاضاة المُخالفين والمُتاجرين بالمُجتمع والعمل المدني وتطهيره من المُلوِّثات الضارَّة!!
حُجَّةٌ كهذه سمعناها أكثر من مرَّةٍ وعلى أكثر من منبرٍ ومُناسبةٍ ومن أشخاصٍ مسؤولين تماماً ويعلمون ما يقولون، بل وأكثر من ذلك تشكِّي هؤلاء من «المالية»، وأنَّها لا تتجاوب معهم في أوجه الإنفاق وتوفير الموارد اللاَّزمة لإتمام المُقاضاة وما إلى ذلك! فهل هذه حُجَّةٌ مُقنعة؟ وهل يكفي ذلك ليظلَّ الحال على ما هُو عليه من السُّوء والسواد؟!
لستُ هُنا بصدد التحريض على المُنظَّمات أو ما شابه، فلا يقول بذلك عاقلٌ يُدرك أهمِّيَّة العمل المدني والخيري والطوعي والتعاوني وضرورة مُباركة وإسناد هذا القطاع الحيوي المُهمّ ودوره في خدمة التنمية والمُجتمع عُموماً، هذه مسألةٌ لا تقبل المُزايدة أو المُناقصة.
ومع ذلك يحقُّ لي وَلَكُمْ مُساءلة الوزارة المُختصَّة في وظيفتها ومسؤولياتها الثابتة تجاه المُجتمع المدني وحمايته من أن يتحوَّل إلى بُؤرة فسادٍ كبيرةٍ يمتدّ أذاها ليشمل الدولة والمُجتمع المدني بأسره، أو أن يُصبح العمل الطوعي والخيري والمدني نوعاً آخر من الإفساد والارتزاق والارتهان وتشييد المصالح الخاصَّة على حساب قائمةٍ طويلةٍ من المحظورات والمُحرَّمات، الإنسانية والمدنية والوطنية.
لا أستعجلُ شطب وإلغاء المُنظَّمات الألف والنيف التي تُؤكِّد الوزارة مُخالفاتها الصريحة للقانون، وأنَّها تعمل بطريقةٍ مشبوهةٍ أو تُثير الريبة والشكّ وتطعن في البراءة والذمَّة والنزاهة، وأرجو من عميق قلبي أن تكون نظيفةً وقادرةً على إثبات عفّتها، بل أستعجلُ - بكُلِّ تأكيدٍ - تسوية الأُمور وتنظيف الصُّورة والمعنى حتَّى يتسنَّى لنا التأكُّد من أنَّنا جادُّون فعلاً في تأسيس عملٍ مدنيٍّ وطوعيٍّ ورساليّ، والسير في طريقه حتَّى آخر الشوط، فلا يُعقل أن يظلَّ المجال مفتوحاً على مصراعيه أمام طُلاَّب مصالح وأرصدةٍ وأملاكٍ خاصَّة، وأن تعلم الدولة أو الجهة المُختصَّة بهم ولا تفعل ما يجب حيال ذلك! وإلاَّ فإنَّ التواطؤ سيكون التوصيف الوحيد المقبول لدينا!
جدل المُجتمع المدني وحُرِّيَّته وحُقوقه وواجباته لن تكون مُفيدةً وذات غايةٍ شريفةٍ ونزيهةٍ ما لم تتحدَّث أعمال وخدمات ومشاريع المُنظَّمات كافَّة على الواقع وبين الناس والجماعات المُستهدفة من ذوي الفاقة والعوز والاحتياجات المُباشرة، وما لم يكُن الحديث مُقتصراً على اللِّسان والإعلام وحدهما دُون عملٍ ملموسٍ يشهد ويُزكِّي.
أشهدُ أنَّ هُناك عشرات المُنظَّمات البعيدة عن واجهة الصخب والدعاية، تعمل بصمتٍ ويعرفها المُواطنون، رجالاً ونساءً، في المهرة والغيضة واللُّحية ومارب وبيت الفقيه وسواها من المناطق، وهذه هي مَنْ يُعوَّل عليها النُّهوض بالمُجتمع المدني والعمل الطوعي، أمَّا التي تكون وجهاً آخر للجدل السياسي والصخب الإعلامي، فإنَّها مدعوَّةٌ للالتحاق بأحزابها وكفِّ أذاها عن المُجتمع المدني وتحريض العالم ضدَّنا.
[email protected]
نقلا عن الثورة