|
|
|
د . أحمد محمد الأصبحي - الفصل الأول:
الأمن القومي العربي (الوضع الراهن)
يعتبر مفهوم الأمن القومي من المفاهيم الحديثة التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، وقد تعـددت التعـريفات.
ومن بيـن هذه التعريفات، هناك من أولوا قضايا الاستقلال والسيادة القومية أهمية أكثر من قضايا أخرى في الأمن القومي، وأن على الدولة أن تكون قوية عسكرياً، لكي تحافظ على أمنها واستقرارها وسيادتها.
وهناك من ذهبوا في التعريف إلى الاهتمام بالوظيفة الاقتصادية والسيادة الاقتصادية، والموارد الطبيعية، والتنمية الاقتصادية باعتبارها أساساً في استراتيجية الدولة نحو الأمن القومي، بمعنى أنه يعني القدرة على التحكم في أكبر عدد ممكن من أدوات السياسة في المجال الاقتصادي.
وتعرّفه الموسوعة الاجتماعية، بأنه قدرة الأمة على حماية قيمها الداخلية من التهديدات الخارجية.. أو هو قدرة المجتمع على مواجهة جميع الأخطار الداخلية والخارجية.
ويرى د. حامد ربيع، أنه يعني الحماية العضوية والمادية لكل مواطن ينتمي إلى الجماعة أولاً، وللجماعة ثانياً كحقيقة بشرية، بحيث لا يتعرض كيانها ومصالحها في الحاضر والمستقبل لأي تهديد، مع مراعاة المتغيرات الدولية، وبهذا المعنى فإن الأمن القومي يشمل الأمن العسكري كذلك.
ويعرّفه د. أحمد سعيد نوفل، بأنه يعني حماية الدولة أو مجموعة الدول، وتأمينها من الأخطار الداخلية والخارجية، وتأمين مصالحها القومية، وخلق الأوضاع الملائمة لتحقيق أهدافها القومية.
فالأمن القومي لأي شعب أو أمة، هو تلك الأعمال والإجراءات التي تتخذها لتحقيق أمنها، وضمان استقرارها ونمائها، وعدم شعور مواطنيها بالخوف من أي اعتداء داخلي أو خارجي.
فمفهوم الأمن القومي لا يمكن حصره في مجرد التحرر من التهديد العسكري الخارجي، كما لا يمكن تحديد كيانه بسلامة الوطن وأراضيه
أو بسيادته، وإنما يمتد هذا المفهوم إلى آفاق أوسع ليشمل معاني الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، حيث إن الأمن القومي متعلق بالاستقرار الداخلي بقدر ما هو مرتبط بالعدوان الخارجي (1).
ولا يتسنى تحقيق الأمن الحقيقي لأي دولة إلاّ من خلال رسم سياسة للأمن القومي، تشمل مجموع الخطط والوسائل والاستعدادات، والترتيبات التي تتخذها تلك الدولة للمحافظة على أول مطلب لوجودها، وهو الأمن بمعانيه الداخلية والخارجية التي تتوفر فيها عناصر الإنسجام المجتمعي الداخلي الذي يمتلك اقتصاداً متوازناً وقادراً على مواجهة الأزمات، وتوفير مجموعة سياسات وعلاقات إقليمية مع الجيران والأصدقاء والأعداء المحتملين على السواء (2).
وفي كتابه جوهر الأمن يذكر روبرت ماكنمارا في مفهومه للأمن القومي أن هناك حالة عدم استقرار أخذت تسود مساحة كبيرة من سطح الكرة الأرضية، إذ توجد علاقة مباشرة بين عدم الاستقرار، وبين الوضع الاقتصادي للدول.. وتزداد الصراعات الداخلية، ولا تتناقص.. فإذا أخذنا مثلاً (38) دولة فقيرة مما يصل دخل الفرد فيها إلى (100) دولار سنوياً، نجد أن (32) دولة منها عانت من صراعات داخلية مهمة أغلبها صراعات بين السلطة والشعب الذي من المفروض أن تمثله.
ويمضي قائلاً:
وإذا أخذنا مثلاً آخر (37) دولة غنية مما يصل الدخل الفردي فيها
إلى (2000) دولار سنوياً، نجدها تمتلك (75 ٪) من الثروة العالمية،
في حين أنها لا تضم أكثر من (25 ٪) من سكان العالم، وحتى عام 1958م، تعرضت دولة واحدة منها لاضطراب داخلي كبير داخل أراضيها.
والمشكلة العسكرية إن هي إلا وجه سطحي لمشكلة الأمن القومي، إذ يمكن للقوة العسكرية أن تساعد على توفير القانون والنظام، ولكن علاوة على ذلك لابد من توفير القاعدة المطلوبة للقانون العام والنظام في المجتمع النامي، حتى يصبح درعاً تتحقق وراءه التنمية، وهي الحقيقة الأساسية للأمن.. وكلما تقدمت التنمية، تقدم الأمن.
ويرى أميـن هويدي أن الأمن الحقيقي لدولة ما، ينبع من المعرفة الشاملة بمصادر قوتها في كل الميادين، وأن التنمية الفعلية لهذه القدرات مجتمعة هي درعها الأمني في الحاضر والمستقبل.
وفي هذا السياق فإن إعلان بكين لحقوق الإنسان في 2017م، أكد على أن كرامة الإنسان ليست متعلقة بالحرية، بل بالتنمية، حيث لا ترتبط كرامة الإنسان بالحرية إذا لم ترتبط بالتنمية.
وما هو مطلوب تحقيقه من الأمن القومي لدولة ما، يسري على مجموع الدول المطلة، وهذا لا يكون إلا من خلال توفر الرغبة المشتركة، واقتناع الجميع بضرورة الاتفاق على استراتيجية أمنية موحدة الهدف والجهود، يتم إعدادها بموضوعية، وعلى ما هو قائم، وعلى ما يحدث في الواقع،
وأن تكون متكاملة الأبعاد والأغراض، بحيث تشكل التنمية الاقتصادية والسياسية والعلمية والعسكرية على حد سواء.
والأمن البحري جزء من الأمن القومي، الذي لم يعد الاهتمام به اليوم من اهتمام الدول المطلة عليه، بل استحوذ على اهتمامات المجموعة الدولية ككل، باعتبار ما يتصل به من القضايا ذات الطابع الاستراتيجي العسكري والأمني والاقتصادي والسياسي، وقضايا البيئة البيولوجية، والمصالح الحيوية، والسلامة المهنية، وغيرها من الشؤون الإنسانية للدول، وكل ما من شأنه أن يهدد الأمن القومي للدول وحقوقها وسيادتها على مياهها ومصالحها في البحر، وتنمية مواردها البحرية، وما قد تتعرض له وسائط النقل المدنية
من أعمال القرصنة والإرهاب في البحار والمحيطات والخلجان والممرات والمضايق الاستراتيجية البحرية التي يسهل في العادة الاعتداء فيها على هذه الوسائط.
وقد بنيت الأساطيل الحربية لحماية الأساطيل التجارية، ثم غدت قوات بحرية ضخمة تمارس أهدافاً عسكرية واستراتيجية للإمبراطوريات والدول الكبرى.
ويشهد عالم اليوم كبرى البحريات التي تملكها كل من الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، والصين، وفرنسا، وبريطانيا، والهند، وألمانيا، واليابان.. وصار لكل بحرية فرعان:
أحدهما: قاعدة برية على الشاطئ، وبها رئاسة البحرية، ومحطات الاتصالات والإمدادات والصيانة، ومطارات وأحواض السفن والمدارس البحرية ومراكز شؤون الموظفين.
والآخر: وهو الأسطول في البحر، ويتكون من سفن وغواصات وطائرات بالنسية للدولة الكبرى الرئيسية (3).
وتسعى الدول الكبرى في زمن الحرب إلى السيطرة على البحر لضمان المرور الآمن لسفنها، ولمنع مرور سفن من يعاديها، وقد تقوم الطائرات المتمركزة على متن الحاملات بتنفيذ أي من هذه المهام. وفي زمن السلم ترسل الدول القوية أحياناً سفناً لحراسة مصالحها في المناطق المضطربة سياسياً.. وفي بعض الأحيان تضطلع البحريات بأعمال عسكرية محدودة في زمن السلم.
القانون البحري: قانون يُنظّم التجارة والملاحة في البحار العليا، ومياه الملاحة الأخرى بما في ذلك البحيرات والأنهار الداخلية، وهو يشمل كل السفن ابتداء من سفن الركاب الكبيرة حتى مراكب الاستجمام الصغيرة، ويتضمن الأمور الخاصة بالعقود والتأمين وأضرار الملكية والإصابات الشخصية، وأحياناً يتم الرجوع إلى القانون البحري على أنه قانون الأميرالية، لأنه كان ينفذ في وقت من الأوقات في ظل سلطة أميرالات البحر.
وبالرغم من وضع قانون بحري عام على المستوى الدولي، إلاّ أن كل دولة تستعمله وفقاً لقوانينها واستخداماتها، ويعتمد القانون البحري الخاص بكل دولة على القانون العام مع إجراء التعديلات التي تراها ضرورية وسليمة، والقانون البحري عامة ليس له قوة قانونية، حيث إنه لا توجد محكمة دولة تقوم بتنفيذ القرارات البحرية، ولكن كل الدول التي تملك سفناً في البحار تقوم بتشكيل محاكم قومية بحرية، وهذه المحاكم تنظر في الحالات البحرية، وتستمع المحاكم المدنية لأنواع الشكاوى الأخرى (4).
لقد كُنا أسياد البحر حين اهتم الآباء الأوائل المجتمعون حول كلمة واحدة والمتعاونون المتكاملون المهتمون فعلاً بموقعنا البحري.
وكنا أغنياء بسيطرتنا على البحر..
واليوم لم نعد نُعنى بالموقع الاستراتيجي، فقدم الآخر من مكان بعيد ليسيطر على هذا الموقع ليغنى.. ونفقر !.
فها هي أساطيله تموج في مياه خليج عدن والبحر الأحمر، بينما تقلص وجودنا، مثلما تقلص مفهومنا للأمن القومي.
إن من يملك القوة هو من يحدد مفهومه للأمن القومي، فحيثما تمتد مصالحه خارج حدود أرضه يتم حمايتها وينتهي عندها مفهومه القومي.
ولن نملك أسباب القوة إلا بالوحدة مصدر تمكننا من القدرة على مقدراتنا والسيطرة على البحر، وجعله بحيرة آمنة كما كان بحيرة سلام، وبدون الوحدة إيماناً وعملاً سنظل منقسمين، ضعفاء، وسيظل القادمون من مكان بعيد يسيطرون ولا يقيمون لنا وزناً، ولن تشفع لنا ثقافتنا ووعينا النظري بأهمية الموقع، والأمن القومي، إزاء عبث الآخر، وإزاء الواقع الذي ينطق بأنه أصبح أن صديق عدوي صديقي، ولهذا صار وفق هذه القاعدة المستجدة المفتعلة أن نمد يد بعضنا سراً لمصافحة المغتصب بل وجاهر هذا المغتصب بزيارة بعض دولنا علناً !
إننا في ظل انقسامنا وفرقتنا لن نفيد من موقعنا، ولن يغني ذلك شيئاً، كما لا يفيد أن يذهب بعضنا إلى التصنيف بأنها دول معتدلة، وأن بعضها الآخر دول مقاومة وممانعة، فلن نقدم للأمن القومي، وانتشال الواقع شيئاً، سوى المزيد من الشر الذي نعانيه.
فـ لا يمـين يـجـيـرنا أو يـسار❊❊ كـلنـا تحـت حــد السـكـين ســواء
إن استقلال الأمة العربية، وقوة وجودها، رهن بتحقيق أمنها القومي بمختلف جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والثقافية والاتصالية والدفاعية.. فقد حباها الله بخصائص، وميزات قل أن تتوفر في غيرها، ورشحها لحمل الرسالة، وجعلها أمة وسطاً بين الأمم والشعوب، يجتمع لها من أسباب القوة، والاستقلال، مالا يجتمع لكثير من الأمم، في وحدة الأرض وجغرافيتها المتصلة، وموقعها الاستراتيجي واكتنازها لأهم وأكبر الاحتياطات النفطية في العالم، وما لديها من الثروات الطبيعية.
وتمتلك أمتنا اليــوم أكـثر مـن أي فتـرة مضت مـن الخـبـرات الـواسعـة والمتعددة في مختلف ميادين الأمن القومي بما في ذلك وفرة الكوادر البشرية، والقدرات والتخصصات الفنية والإدارية والعلمية والتقنية.
غير أن واقع النظام العربي الذي يعاني من ضعف أو غياب التكامل والتنسيق والتنظيم بين دوله، عرّض الأمن القومي لحالة غير مسبوقة من الاختراقات والتأثيرات، وظل وطنننا العربي يعيش ذات الحالة، التي كان يعيشها منذ الأربعينيات على حد تعبير محمود رياض في مذكراته التي يقول فيها "مازالت مشاكلنا الكبرى هي ذات المشاكل التي كنا نبحث لها عن حلول في ذلك الوقت، وبعد كل هذه السنوات مازال أمننا العربي مهدداً أكثر من ذي قبل... ومازلنا عاجزين عن حمايته".
فالأقطار العربية يعمل كل منها على ترسيخ كيانه القطري، ويسعى إلى المحافظة على مصالحه وتثبيت وجوده واستمراره، ويتوجه تحت ظروف الفرقة، والمخاوف المتبادلة، وضعف الثقة، إلى هذه أو تلك من القوى العالمية المتصارعة..
وقليلاً ما يختفي التوتر في العلاقات العربية ـ العربية، وخاصة بين الأقطار المتجاورة، ويبرز بين حين وآخر تنازع السيادة القومية من قبل بعض الأقطار العربية الأكثر مالاً.
ولا محل للإنكار على ما ينفق بسخاء على أمن أقطارنا، ولكنه يذهب لاتقاء شر بعضنا بعضاً، وفي كيد بعضنا على بعض، وكثيراً ما كان سبباً في تعميق خلافاتنا، وهز أركان الثقة والأخوة..
وقلما اجتمع القرار الأمني الرسمي لصالح الأمن القومي، ولا يكون إجماع في العادة إلا على حساب الأمن الشعبي!..
ولقد أوشك تأثير التحديات الأمنية الخارجية أن يجعل القرارات العربية انعكاساً للإرادة الأجنبية، وتحقيق مصالحها في الكثير من الحالات،
فقد وصل الأمر ببعض الأنظمة العربية إلى أن تبحث عن مصادر خارجية تنتصـر بها ضـد بعضهـا بعضـاً، وتستبـدل معـاهـدات الدفـاع، والتعـاون الاقتصادي العربي بالتوقيع على اتفاقيات دفاع ثنائية مع الدول الأجنبية، في حين تزايدت الضغوط الأجنبية، وبشكل سافر لإضعاف القوة العسكرية العربية، وحرمان الدول العربية من التسليح وفرض القيود على الصناعة العربية، ومنعها من التصنيع إلاّ بما توافق عليه الصناعات العسكرية الأجنبية... فالصناعة العسكرية المصرية تعتمد على الإنتاج بالتراخيص... والصناعة العسكرية السعودية تعتمد منذ بداياتها اعتماداً كلياً على الصناعات الغربية عموماً، والأمريكية بشكل خاص.. أما الصناعة العسكرية العراقية، فقد عملت نتائج حرب الخليج على شلها، وعلى تدمير قوتها الدفاعية التي أوشكت أن تغدو قوة إقليمية ضاربة، وفرض حصار قوى لمنعها من استعادة قوتها وقدرتها على التصدي للعدوان الخارجي.
وامتدت أعمال الحصار والحظر العسكري إلى أكثر من قطر عربي، فقد استغلت قضية (لوكربي) لفرض حظر جائر على ليبيا، لإمدادها بالأسلحة، وتعرضت من قبل ذلك للتهديد بدعوى أنها تسعى إلى إنتاج أسلحة كيميائية، كما تعرضت العراق لضرب مفاعلها النووي، وقامت سفن غربية بمطاردة سفن كورية حين شكت بحملها صواريخ لسوريا، ومثلها قامت ألمانيا بمطاردة سفن تحمل دبابات لسوريا من تشيكوسلوفاكيا.. |
|
|
|
|
|
|
|
|
تعليق |
إرسل الخبر |
إطبع الخبر |
معجب بهذا الخبر |
انشر في فيسبوك |
انشر في تويتر |
|
|
|
|