د. عبدالوهاب الروحاني - يكثر الحديث عن "رجل الدولة" في البلدان التي قد يوجد فيها رجال ولكن لا توجد فيها دولة ..
"رجل الدولة" كلمتان صغيرتان تحملان معنى جاذبا، يرددهما الناس كلما شعروا بالفوضى تضرب بلدانهم واحسوا بغياب النظام والحاجة لمسئولين يملأون فراغ السلطة والدولة.
لعله البحث عن مخرج والتعلق بأهداب ذابلة .. واحلام ضائعة .. ذلك لان رجال الدولة او اشخاصها هم الذين يصنعون دولة.
ورجل الدولة هو رجل موقف، وهو شخص تتوافر فيه صفتان استثنائيتان هما :
1- لا يمكن لرجل الدولة ان يتعايش مع انظمة تورث الفساد وتتوارث الاستبداد.
2- رجل الدولة هو من يترك بصماته على الارض في افعال مثالية حية ، وله انجازات لا تمحى من الذاكرة المجتمعية.
بمعنى آخر بسيط وواضح ، هو ان رجل الدولة لا يمكن ان يستمر طويلا في منصبه اذا كان النظام فاسدا الا اذا كان شريكا فيه ، وهنا تسقط عنه تهمة "رجل دولة" ..ويصبح مجرد موظف تحركه رغبة البقاء في السلطة والتمسك بالوظيفة..
لعلي اجزم ان كثيرا ممن يتحدثون عن "رجل الدولة" في حالتنا اليمنية تحرك معظمهم انطباعات شخصية ، وتحكم بعضهم نوازع وانتماءات قروية وقبلية ، أو عرقية طائفية ، أو حزبية في أحسن الاحوال .. أي أنها احاديث عن موظفين لا تؤيدها قرائن ولا يحكمها منطق ..!!
ذلك لان جدلية "رجل الدولة" تختصرها حقيقة واحدة هي انه اذا وجد رجال الدولة فالدولة ستكون موجودة ومستمرة ولا تموت بموتهم .
افهم جيدا ان "للناس فيما يعشقون مذاهب" كما هو عند ابي فراس ، وافهم "ان القرد في عين امه غزال" كما هو في مثلنا الشعبي ، ومن الطبيعي ان يكتب الناس الوصفات ويوزعون الالقاب على من يهوون ويحبون ، وذلك حقهم ..
غير ان تمجيد شخصيات عامة ، عاش معظمها اكثر من اربعين إلى خمسين عاما في أهم مفاصل السلطة ، يجب في رأيي ان يتم في سياق قراءة واعية للمراحل التي عاشت فيها هذه الشخصيات مقترنا بالزعامات التي تشاركت معها السلطة ، من السلال وقحطان إلى الارياني والحمدي وسالمين ، وإلى ناصر والغشمي وحتى فتاح وصالح والبيض.
افتراق وإنجاز
من هنا، لا يمكن تجزئة الاحداث وفصل هذا عن ذاك ، الا في حالة الافتراق لأسباب مثالية خلدت في الذاكرة الوطنية لأهداف سامية ، كما في حالة رجل الدولة التكنوقراط (النزية) فرج بن غانم، الذي رفض ان يكون موظفاً وأصر على ان يعمل كرئيس حكومة وفق اجندة وطنية ، وكما في حالة رجل الدولة المثقف (المثالي) احمد قاسم دهمش ، الذي استقال وهو رجل التصحيح الاول ، وغادر المشهد في عهد الرئيس الحمدي لأسباب وطنية خالصة وهو في قمة العطاء والانجاز، وضرب اروع الامثلة في العفة والنزاهة حتى مات فقيرا يحمل معه حب الوطن وحلم الدولة..
لن انسى صالح عباد الخولاني .. ذلك الانسان الذي يقطر تواضعا ومودة ..نظيف اليد واللسان ورجل الدولة القوي الامين .. نهض بحضرموت وتألق بألقها، وحول المكلا من مدينة احراش ومستنقعات الى عروس للبحر وزهرة المدائن اليمنية .. وشيد فيها الحدائق، والفنادق، والمنتزهات ، وخور المكلا .. أجمل الاماكن سحرا ، الذي جعل من ضفتيه ملتقى للعشاق والمثقفين ودندنات الدان ، واحاديث الاصدقاء ..
انسان ومسئول ، بنى في حضرموت وترك بصمة رجل الدولة دون ان يكلف الميزانية العامة الكثير ، عالج مشاكل التأميم دون اعلام أو صراخ وضجيج ، ثم ترك المهمة وأعاد سيارتي الدولة بعهدته إلى الادارة المحلية ، وآثر البقاء في منزله يمتلك ثروة كبيرة من الثقة والنزاهة وحب ومودة الناس .
كثيرون هم رجالات الدولة ، الذين علمونا قيم الوفاء للانسان اليمني البسيط ، وقيم الانتماء للوطن والدولة ، بدءاً من الزبيري والنعمان، وفيصل عبداللطيف الشعبي، ومحمد علي هيثم، وجار الله عمر وانتهاء بكل مواطن يبحث عن الدولة التي يحكمها القانون ..
وأخيراً..
دعونا نقول ان "رجل الدولة" كما نفهمه هو الانسان ..أي انسان يؤمن بالنظام والقانون أولاً.. هو المواطن البسيط صاحب "البسطة" و"العربية" ، وهو البقال والفلاح والعامل الذي يستدعي النظام والقانون كلما تعرض للاهانة والابتزاز والقهر والظلم نتيجة غياب الدولة.. هو في ذلك المواطن الذي حُرم أبناؤه من دخول المدرسة نتيجة قطع مرتبه وتضيق سبل العيش والحياة في وجهه ..
رجل الدولة هو المواطن والمسئول الذي لا تجره عصبية قروية ولا قبلية ولا عرقية الى فعل او قول يخدش جمال لوحة جغرافيا السهل والجبل .. وهو الذي ينتمي لوطنه الكبير ، ويؤمن بمواطنة متساوية .. وينظر للناس.. كل الناس بكونهم مواطنين متساوون في الحقوق والواجبات امام القانون.
|