د. عبد الوهاب الروحاني - المعاناة .. أي معاناة تولد عادة الالهام .. وعندما يصل الياس الى اقصى درجاته يستعيد الامل موقعة بفكرة صغيرة قد تكبر وتصبح ملهمة لعمل خلاق لا يتوقف.
في ظل حكومة الدكتور الارياني (1998-2001م) ، التي عرفت حينها بحكومة "التجريع والتجويع" طبعا بمقاييس (رخاء) تلك الايام خرج الناس بتحريض من الاصلاح باعمال فوضى وتخريب في صنعاء وبعض المدن ..
اخذ الفساد والترهل يتمدد في الجهاز الاداري للدولة، ولعله كان قد بلغ مداه بنتيجة حرب 94م، وشاع امر الرشاوى الكبيرة في النفط والغاز، وتوزيع البلوكات والقطاعات للمتنفذين، واصحاب الجيوب المنفوخة والكروش التي لا تمتلئ.
وصلت الرشاوى الى السياحة وفاحت رائحة شنطة الدولات الشهيرة، التي كشفها يحيى الراعي بالصدفة حينما ضرب عليها ممازحا ومتسائلا عما بداخلها، فانفتحت فجأة في اجتماع تنظيمي وملؤها رزم خضراء من دولارات الامريكان .. القصة معروفة لنخبة تلك المرحلة!!
كنا في مجلس النواب نستقبل وزيرا ونودع آخرا، وكانت فرصة الكثيرين من الاعضاء للمراجعة وتقديم الاوراق والطلبات، وكنا نحرص على عدم اغضاب وجرح مشاعر هذا الوزير او ذاك ليخرج الجميع مستبشرا وواقع حاله يقول "يمدد ابو حنيفة ولا يبالي" ..!!
رفع الدعم وتحسين تحصيل ضريبة البنزين، والمصادقة على توجيهات البنك الدولي واتفاقيات وعقود القطط السمان كانت من اولويات مهام المجلس .. كنا نمعن كثيرا في مناقشة حضور النواب وغيابهم ومستحقات اللجان ..
الامر كان يبدو غاية في الرتابة .. مملا وغير ذي معنى، وكان المجلس يضم نخبة من النواب المستنيرين.. فطرأت فكرة تشكيل كتلة نواب بلا انتماء .. مهمتها ان تضع الوطن فوق الاحزاب ومقاومة الفساد ايا كان مصدره وانتماؤه ..
تشاركت الفكرة مع عدد من الزملاء قبل وبعد "انتخابات 97 الكاسحة" بحسب تعبير الدكتور الارياني.. كان من بين الزملاء الذين شاركتهم الفكرة على ما اذكر عبد الحبيب سالم، د. عبد الله المقالح، عبد الرحمن الاكوع، وصاحب رائعة "نشوان" صديقي الشاعر المبدع سلطان الصريمي عليه الرحمة والسلام، والدكتور الاكثر ابتساما وهدوءا محمد الافندي، ثم صاحبي النبيل الذي يتوقد "شيطنة" وذكاء نبيل باشا.
كانت الفكرة رائعة وجذابة .. لكنها بدت للبعض مستحيلة في ظل عصبية الانتماء والتمترس وراء اليافطات، غير ان الامل ظل يحدونا والتفاعل كان يتم بطريقة أو باخرى.
الرائع د. عبدالله المقالح لم يمنعه انتماؤه للاصلاح من ان يكون اكثر ميلا للفكرة مع بعض المحاذير، اما الصريمي سلطان فقال بعد ان اطلق ضحكة قصيرة "تشتينا نوجش المؤتمر"!!
في جلسة حضرها عبدالقادر با جمال وزير التخطيط والتنمية حينها، كانت مخصصة لمناقشة مصفوفة شروط طويلة للبنك الدولي لدعم اصلاحات مالية واقتصادية .. رفضها اغلب النواب..
ضمن المداخلات المعارضة، قلت مخاطبا باجمال (رحمه الله) :
- نريد ان تقدم الحكومة لمجلس النواب مشاريع اصلاحات باقلام وزرائها وبناء على توصيات المجتمع وحاجة الدولة، وليس بناء على توصيات سكرتيرات البنك الدولي !!
- كنت قاسيا بعض الشيء، فهمس نبيل باشا في اذني وقال "كلام في الصميم لكن جور .. جور!!" .. ربما كان محقا لكن الجرع كانت اكثر جورا على المواطن البسيط الذي يدفع ثمنها غاليا ..فاضطر باجمال للمغادرة بعد مداخلات رافضة لتوصيات البنك الدولي..!!
لم تمت الفكرة، ففي مقيل مختصر بمنزل عبدالملك علامة (وكيل النفط) طرحت على الشيخ عبدالله الاحمر (رئيس المجلس) فكرة مناقشة تقارير الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة التي كنا نتعقبها وننشر اخبارها في صحيفة (22 مايو).
تعززت قناعة الرجل بالفكرة بعد زيارة لمنزله مع صديقي عبد الرحمن الاكوع، فقال بحكمة السياسي المتوازن "لكن ما يمكن نتواجه مع الحكومة المفروض نكون مكملين لبعضنا" ..!!
وفعلا بدأت اللجان تقدم تقاريرها للمجلس اعتمادا على وثائق الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة ، وكانت سابقة رائعة لفكرة ملهمة بدأت تنهض بدور نواب الشعب في محاصرة الفساد .
|