*14 اكتوبر - * - شهد النصف الأول من شهر فبراير الجاري صراعا فكريا بين تيارين كان محوره الموقف من الفن والغناء والموسيقى بما هو موقف من الاحتياجات الروحية للمجتمع.
ولما كان الفن أحد المكونات الرئيسية للثقافة الوطنية اليمنية المعاصرة ، حيث كان لمدينة عدن دور ريادي في حماية وتطوير التراث الغنائي والموسيقى اليمني ، وتوظيفه في معارك الدفاع عن الحرية والهوية والثورة والجمهورية والوحدة والحياة الجديدة ، فقد كان على الوطنيين اليمنيين واجب الدفاع عن رصيد مدينة عدن التي دافعت عن الأغنية الصنعانية ووفرت لها الحماية الكاملة من الانقراض ، بعد أن حارب النظام الأمامي البائد فنون الغناء والموسيقى ، ونصب المشانق للآلات الموسيقية في باب السباح بصنعاء القديمة ، تنفيذا لفتاوى تحريم الفن والغناء والموسيقى التي أصدرها في ثلاثينيات القرن الماضي فقهاء النظام الإمامي الكهنوتي المباد . وهي فتاوى ميتة مازالت قوى سياسية كهنوتية أخرى تتبناها اليوم ، وتحاول فرضها كمذهب رسمي للدولة والمجتمع ، على نحو ما حدث عندما قام بعض فقهاء وملالي أكبر أحزاب (اللقاء المشترك) بإعادة إنتاج تلك الفتاوى ، وحاولوا بث الروح في عظامها الرميمة ، وتوظيفها في هجومهم المسعور على مهرجان عدن الفني الأول ، الذي يأتي في سياق مهرجانات مماثلة تقام فصليا وسنويا في مختلف عواصم ومدن دول مجلس التعاون الخليجي الذي يتأهل اليمن للانضمام إليه ، وفي عواصم ومدن بقية الدول العربية من الخليج إلى المحيط.
لم يقف دور مدينة عدن عند حماية التراث الغناء الصنعاني والحفاظ عليه بعد الهجمة الإمامية الكهنوتية التي استهدفت القضاء عليه بذريعة تحريمه من قبل الفقهاء المتزمتين قبل أربعة عقود من الزمن ، بل كانت عدن ميدانا لإحياء وتطوير ونشر الأغنية اليافعية واللحجية والحضرمية والتهامية ، ومدرسة لتأصيل وتحديث الإيقاعات الموسيقية للباله والدان، الأمر الذي جسد حقيقة أن اليمن هو أصل ومنبع الغناء العربي بحسب قول الفنان الكبير محمد مرشد ناجي أطال الله في عمره.
يمكن القول إن الصراع الذي دار حول مهرجان عدن الفني الأول الذي أحيته الفنانة السورية أصالة نصري وفرقتها الموسيقية ، والفنان المصري عصام كاريكا وفرقته الاستعراضية ، كان اختبارا للموقف من الحداثة والفن من جهة ، بقدر ما كان ـــ من جهة أخرى ـــ اختبارا ً للموقف من الرصيد الثقافي لمدينة عدن التي كانت رائدة وسباقة في رفع مشاعل الموسيقى اليمنية والعربية ، واستقبال مشاهير الغناء والموسيقى العربية أمثال فريد الأطرش ومحرم فؤاد وطلال المداح ومحمود شكوكو ونجاح سلام وشادي الخليج ومارسيل خليفة ومحمد وردي وغيرهم ، بالإضافة الى ريادتها في تقديم واحتضان عمالقة الغناء والموسيقى اليمنية أمثال محمد مرشد ناجي واحمد قاسم وخليل محمد خليل وسالم بامدهف وأبوبكر سالم بلفقيه وصباح منصر وأمل كعدل واحمد السنيدار وأيوب طارش وعلي السمه وحسين المحضار واحمد فضل القمندان ويوسف احمد سالم وطه فارع وفرسان خليفة ومحمد محسن عطروش وفيصل علوي وغيرهم ممن لا يتسع هذا الحيز لذكرهم .
ومما له دلالة أن الذين حاربوا مهرجان عدن الفني الأول جمعوا بين محاربتهم للفن والغناء والموسيقى استنادا إلى أفكار ظلامية معادية للفرح الانساني ، وبين توجهاتهم السياسية الرجعية التي تستهدف تغيير معالم مدينة عدن ، وتجريدها من رصيدها الثقافي التاريخي في رفع مشاعل الحداثة والتنوير ، وصولا ً الى السعي للانتقام من دورها في صناعة هذا الرصيد الثقافي التقدمي الحضاري .
ولأنه كذلك ، فقد استخدم التيار الرجعي الظلامي مختلف الوسائل المنسقة والمنظمة لتحقيق أهدافه السياسية ، بدءا ً من التحريض ضد مهرجان عدن الفني الأول ، والزعم بتحريم الغناء والموسيقى عبر بعض منابر المساجد والمنشورات ورسائل الهاتف الجوال ، وانتهاءً بالتلويح باستخدام العنف والتهديد بقتل أصالة ، والحرص على اختيار مصرع الشهيدة الخالدة بني ظير بوتو مصيرا ً مشابها ً لمصير الفنانة أًصالة ، إن هي أصرت على المشاركة في إحياء مهرجان عدن الفني الأول ، على نحو ما جاء في بيان تنظيم (القاعدة ) الإرهابي الدولي . وهي رسالة تهديد لم تكن موجهة إلى الفنانة السورية أصالة فقط ، بل إلى الجمهور اليمني الذي سعى أعداء المهرجان إلى إرهابه وتخويفه من المشاركة فيه ، وتهديده بمصير مماثل لأكثر من مائة وعشرين قتيلا وسبعمائة جريح سقطوا في حادث اغتيال بني ظير بوتو !!.
لا نبالغ إذا قلنا إن الصراع الذي دار حول مهرجان عدن الفني الأول كان مصيريا وحاسما، فقد حاول أعداء المهرجان فرض وجهة نظرهم بكل الوسائل ، بما فيها التهديد باستخدام القوة ، فيما كان أنصار المهرجان وعشاق الفن ومحبو مدينة عدن يستخدمون وسائل مدنية متحضرة في الدفاع عن وجهة نظرهم ، وعدم الخضوع للهجمة الشرسة التي استهدفت الضغط على الدولة والمجتمع لتنفيذ أجندتهم الظلامية الرجعية.
والثابت أن العامل الحاسم لهذا الصراع كان موقف الجمهور الذي حسم المعركة من خلال الإقبال الواسع على هذا المهرجان من مختلف المحافظات رجالا ونساءً ، حيث يعود الى موقف الجمهور الحاسم كل الفضل في نجاح المهرجان بمستوى قياسي وغير مسبوق خليجيا وعربيا، الأمر الذي يمكن اعتباره استفتاء ً شعبيا لصالح خيارالفن والغناء والموسيقى كحاجة روحية وأصيلة ومتجددة للمجتمع اليمني.
جاء الناس ومعظمهم من الشبان والشابات بصورة فاقت كل التوقعات من مختلف المحافظات ، وتدفقوا بحماس لا محدود على مراكز بيع تذاكر الدخول ، وزحفوا إلى مكان المهرجان وهم يحملون الورود الحمراء ويرددون الهتافات بصوت عال انتصارا لحقهم المشروع في الغناء والموسيقى والفرح الانساني . وعندما هتفت حناجرالألوف من الشبان والشابات ( بالروح والدم نفديك يا أصالة ) فقد كانوا يقصدون من خلال تلك الهتافات التي دوّّت في عنان السماء ، توجيه رسالة قوية الى المتطرفين والمتشددين ، وحلفائهم الإرهابيين الذين هددوا بقتل أصالة إن هي أصرت على إحياء المهرجان ، وبقتل الجمهور إن هو شارك في حضوره .!!!
واللافت للنظر أن المعركة التي دارت حول مهرجان عدن الفني الأول، كشفت حقائق ساطعة لا يمكن تجاهلها ، فهناك من التزم الصمت والحياد خوفا أو نفاقا ، وهناك من عبر بالموقف الملموس عن حبه الحقيقي للفن ووفائه الصادق لمدينة عدن التي كان بعض الصامتين والمداهنين والمرعوبين يتاجرون باسمها ، بينما تخلوا عنها ولم يشاركوا في مواجهة الهجمة الظلامية المسعورة التي استهدفت حقها وحق أبنائها في الفرح والغناء.
المثير للدهشة أن الحزب الاشتراكي اليمني الذي يتباكى على عدن ، ويتظاهر بغيرته عليها وعلى رصيدها الثقافي الحضاري في رفع مشاعل التنوير والحداثة والقيم المدنية الحديثة ، كان الصامت الأخرس والمحايد المشلول في هذه المعركة ، حيث خلت صحيفة (الثوري) الناطقة باسمه وموقع (الاشتراكي نت )الصادر عنه ، من أي موقف أو تغطية بالرأي أو الخبر لوقائع هذه المعركة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس على مدار الأيام السابقة للمهرجان عبر التغطيات الخبرية والصحفية لوسائل الإعلام والمواقع الإخبارية اليمنية والعربية و العالمية.
من حق الحزب الاشتراكي أن يتخلى عن مدينة عدن حتى لا يغضب حليفه الذي يقوده في إطار تحالف (اللقاء المشترك ) ، بعد أن أصبحت مواقف الحزب الاشتراكي اليمني تتسم بالتبعية والرمادية في إطار تحالفه غير المقدس مع قوى الظلام . بيد أنه ليس من حق الحزب الاشتراكي أن يقنع الناس بأنه لا يزال محسوبا ً على قوى التنوير والحداثة ، بعد أن تخلى ليس فقط عن واجبه في الدفاع عن رصيد مدينة عدن الثقافي التنويري ، وحقها المشروع في إقامة مهرجانها الفني الأول واستعادة دورها في رفع مشاعل الغناء والموسيقى اليمنية العربية التي كانت رائدة وسباقة في رفع مشاعلها طوال القرن العشرين المنصرم، بل وفي تخليه عن مشروعه الثقافي التقدمي الذي وضع الحزب الاشتراكي طوال تاريخه في خانة قوى التقدم والحداثة والتنوير يمنيا وعربيا ، قبل أن يتحالف مع كهنة وشيوخ وطيور الظلام في إطار ما يسمى بتكتل (اللقاء المشترك).
رحم الله عبدالله عبدالرزاق باذيب الذي خاض ضد طيور الظلام معارك الدفاع الأولى عن الفن والغناء والموسيقى عبر مجلة ( المستقبل ) التي أصدرها في أواخر الأربعينات من القرن العشرين المنصرم، الى جانب الموسيقار الأمير أحمد فضل القمندان الذي رد على دعاة تحريم الغناء والموسيقى التي أطلقها في عدن أنصار فتاوى فقهاء النظام الإمامي الكهنوتي آنذاك ، بمؤلفه الفقهي الرائع ( فصل الخطاب في تحريم العود والرباب ) .
وحفظ الله إبن مدينة تعز ، الشاب الرائع مروان الخالد ، الذي خاض في مواجهة جيل آخر من طيور الظلام قي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ، هذه المعركة الخالدة التي تتوجت بإنتصار مهرجان عدن الفني الأول على قوى الظلام والتخلف والكهنوت . وقد أثبت ابن تعز الحالمة ، حبه الصادق لمدينة عدن ثغر اليمن الباسم ولو كره الظلاميون . كما جسد هذا الشاب الرائع بصموده في وجه التهديدات التي تعرض لها إن هو أصر على تنظيم المهرجان ، وفاءه النبيل لدور مدينة عدن الريادي في رفع مشاعل الأغنية اليمنية عاليا ً، ولحق مدينة عدن في استعادة هذا الدور الذي يحاول الظلاميون تغييبه .
يبقى القول إن نجاح مهرجان عدن الفني الأول فتح مرحلة جديدة وحاسمة في مسار الصراع الدائر بين مشروعين ثقافيين وسياسيين متعارضين ، في سياق عملية بناء الدولة الوطنية الحديثة والمجتمع الجديد . وقد أفرزت هذه المعركة خارطة جديدة لمفاعيل التغيير ، حيث كان مهرجان عدن الفني الأول اختبارا حاسما لموقع وموقف مختلف القوى السياسية في الصراع الدائر بين مشروعين ثقافيين متعارضين في إطار العملية الديمقراطية الجارية في البلاد.
وتأسيسا على ذلك يبرز سؤال هام عن هوية الحزب الاشتراكي اليمني و طبيعة مشروعه السياسي والثقافي بعد ان اختار لنفسه سلوك طريق الصمت والمداهنة والانسحاب إلى خارج سياقه التاريخي التقدمي !!
ولله في خلقه شؤون .
*14 اكتوبر |