د. عبدالوهاب الروحاني - مزاج المثقف في بلادنا يتلون بلون المقيل الذي يحضره ووريقات القات التي يمضغها.. وببساطة يمكنه ان يتخلى عن دور التنوير، الذي هو منوط به ويقبل بدور طبل ابن المقفع في كليلة ودمنة، الذي قال ثعلبة فيه: "لعل أفشل الأشياء أجهرها صوتاً وأعظمها جثة"..!!
اقول هذا لان بعض مثقفينا ارتضوا لأنفسهم اللعب في هذه المساحة الضيقة، في ظل وجود تابوهات ثقافية تختطف الاضواء وتسيطر على المشهد وتحتكر رسمه وتقييمه..
بعد جيل البردوني، والمحضار، والحضراني، وسبيت، وصبرة، والمقالح، والشرفي، وعبدالرحمن قاضي، ويحيى البشاري، وحسن اللوزي، والفضول، والديلمي، لم يظهر الجيل التالي من جيل الشباب، ممن لمع نجمه وجزل انتاجه الا لماما وعلى استحياء.. ذلك لان ابداعات هؤلاء (وهم مبدعون حقا) ظلت مرهونة بصك تصديق وموافقة باباوات المشهد الثقافي القديم - الجديد.. فظل المثقف حبيس الرضى والمباركة..!!
في زمن المد الاشتراكي بدا دور المثقف انه قد ارتقى قليلاً من التابع الى الشريك، ولكن ليس في صناعة الحدث وانما في مناقشة الرأي في اروقة الفكر والفن والادب.
لذلك كان السؤال المتداول : من يقف على يمين الاخر..؟!
هل السياسي يقف على يمين المثقف ام المثقف يقف على يمين السياسي ؟!
على ان الدارج في بروتوكولات ومراسيم الساسة هو تحديد موقع الاول من الثاني.. والأصل في السؤال هو من يوجه من؟! ومن يقود الآخر ؟!
المجاملة في السؤال تبدو طاغية، لان المثقف لم يكن يوماً قائداً وموجهاً إلا فيما بجيد من فنه وابداعه.. غير ان هذه الجدلية برزت في اطار التوظيف والاستقطاب السياسي للمثقف في مرحلة ما بعد شيوع ما تسمى بنظرية "الفن للفن".. اي الابداع في صناعة اللون وزخرفة الحرف وبناء الكلمة، والاغراق في التذوق الفني للصورة و جمال النص، بعيداً عن محتوى الفكرة وصراع الاضداد..
تعود النظرية للمدرسة الادبية الاوروبية "البرناسية" ذات الجذور اليونانية، التي تعاطى معها رواد الفكر والادب الاوروبي مطلع القرن التاسع عشر من امثال فيكتور هوجو، وكانت، وبودلير..
المثقف المعاصر في بلادنا اصبح في بعضه أميل لصناعة اللون وبناء الحرف بعد ان اغرقت الاجيال السابقة في الانتماء الملتزم، حيث توزعت ولاءاتها بين المدارس والمناهح السياسية والفكرية المختلفة..
كان ذلك بديعاً ومدهشاً.. غير ان الاطر الابداعية والثقافية تشكلت تبعاً لذات السياق، وفصلت على مقاس ذلك الانتماء، الذي رسم جدارية نمطية جميلة، ولكن غاب فيها الآخر، وغابت معه جمالية التنوع والاختلاف.
المشكلة ان هذا الاطار "المؤدلج" للثقافة خلق معه جيلاً من المثقفين يناقشون النصوص والصور والحركات بأحكام معلبة وجاهزة..
فإذا جاء الابداع من منبر او سلطة لاتنتمي لمنبره او سلطته وقف تلقائياً على نقيضه إن لم يعمد إلى محاربته..
فالابداع الذي لا ينتمي لمدرسته هو مجرد هراء وتطفل على مائدة مذهبه.. والتكريم الذي لا يخرج من تحت عباءة ما يؤمن به هو تمظهر لكسب الشهرة وتلميع لذات المسئول او المؤسسة المعنية.. وحتى رعاية انتاج المبدع وتأمين سبل إشهاره هو في رأيه مؤامرة، ونوع من الخداع، الذي لا يؤمن مكره..!!
هذه هي القاعدة التي سرت وطفت على السطح على الاقل خلال العقود الاربعة الماضية.. ولله في شأننا شؤون.
|