محمود ياسين - رائحة الورق مختلفة وحضورك في الصباحات مايشبه إطلالة تلقي منها صباح الخير وتتحدث.
كان زمانا ملائما ولائقا بنا، وكنا مميزين ومدهشين ومستخفين أيضا، لم ندرك ماينبغي ومايليق ببلادنا، لم نتوخَّ الحذر.
الصحفي تعريف جذاب لوجودك وكان ذلك التعريف مشروطا بمهارات وثقافة عوضا عن البراعة، وهل أن هذا الرثاء والحنين لتلك الأيام التي كنا فيها مميزين، هل ينطوي على هجاء لحرية النشر الآن ؟ وشكل من النواح المتضمن " أمسى الجميع صحفيا" ؟ لا أدري، أنا أحب فكرة اكتشاف الكل لقدراته وموهبته، وكثيرا ما جنحت للتحفيز والهمس في أذن مثقف قروي أن عليه اعتماد معياره الشخصي وليس معيار الصحف، كأن يعتبر نفسه كاتبا بارعا وملهما أيضا طالما تكون لديه هذا الحس بالوجود المدرك والبارع في آن.
لكن الحنين للورق وشروط النشر يبقى أمراً شخصياً ونوعاً من إلحاح واقعي وانا لم اعد أطل على أحد من أخيرة صحيفة ما، الأمر الذي كان يمنح الصباحات عنفوانا وجوديا،العنفوان الذي لا يشترط النخبوية تحديداً، لكنها الصحيفة،ترويستها وعناوينها والشخصية الرسمية محل الثقة والتقدير، وإذ تصحو قبل الظهيرة وقد تجول اسمك في المدينة منذ الصباح فكأنما تبدأ يومك من المنتصف بضمانة وجودك المبكر وحضورك في الصخب ناهيك عن الفكرة المغوية التي يحبها الكسالى،وكيف أنهم عمليون بطريقتهم، بفوضاهم وبنزعتهم البوهيمية،حيث تقدم مقالاتهم شكلاً من الحماية والحؤول بينهم وبين أن يدفعوا ثمن ذلك الكسل وتلك الفوضى.
تظل الصحيفة وتتنقل، كانت الكتابة مبعث غواية يدا بيد مع القراءة، إذ لم تكن في المتناول كما هو الآن، وكانت الكتابة محمية بالبرتوكول وبعيدا عن فوضى المفاضلة بين المواد المنشورة، إذ أنك وماتكتب الآن بتصرف مزاج اللحظة، حيث يمكن لأي ناشر مفارقات ومرح وفضائح مثلا أن يستحوذ على اهتمام قارئ أمسى كسولا هو الآخر وبحاجة لمن يبادله تهكما شعبويا عند الغروب، بوصف الأخير أكثر انسجاما مع متطلبات السوق الذهني المرهق من الإمعان في الأفكار والسرديات الطويلة.
أحن للصحافة الورقية، ولا يسعنا الآن الكتابة لصحيفة، مامن صحف بعد، والأمر شراكة بين السلطة السياسية الجديدة وسلطة العالم الافتراضي وهو يحقق تقدماً سواء في ظل حريات صحفية أو بدونها.
ألمحت صحيفة الواشنطن بوست أو الليبراسيون في صورة ما فينتابني مزيج من الدهشة والحنين، الدهشة من كون العالم لا يزال يستيقظ ويتصفح ويطوي صحيفة ورقية، العناوين المقاس الورقي، كل تلك التفاصيل لا تزال، وأنا الذي كنت قد خلصت ذهنيا لفكرة الموقع الرقمي، متوهماً أن أكثر الصحف شهرة قد تحولت هي الأخرى لمواقع ونشر الكتروني فحسب، وكأن عالمي الشخصي هو العالم، ومنذ توقفت صحفي ولم اعد أطل من عمود صحفي لألقي تحية الصباح، لم يعد أحد يفعل.
يأخذ العالم أحيانا مقاس وخبرة اصابعك، ويتشكل في ذهنك وفقا للفقدان، فقدان ملمس الورق وشغف الكلمات.
|