طلال الجندي -
عرف علماء السياسة الديمقراطية بشكل مختصر وواضح كونها: "ان يحكم الشعب نفسه بنفسه" ومهما اختلفت آليات ووسائل المنهج الديمقراطي تبعاً للخصوصيات الدينية والثقافية والاجتماعية والديموغرافية التي تميز كل مجتمع عن غيره من المجتمعات الاخرى في شتى انحاء العالم، الا انها تتفق جميعاً في كون السلطتين التشريعية والتنفيذية يجب ان تكونا معبرتين عن ارادة جماهيرية غالبة من خلال الانتخابات الحرة المباشرة. ولما كان الاسلام الذي جاء في جوهره لينادي بمبدأ المساواة بين البشر مصداقاً لقوله تعالى: (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله أتقاكم) فلا فضل لعربي على عجمي إلاّ بالتقوى والعمل الصالح..ولذا كان لابد من تأكيد تلك المساواة في شتى مناحي الحياة المختلفة وعلى رأسها خلافة المسلمين لذلك نزلت الآية المؤكدة على تلك المساواة واضحة وصريحة في قوله تعالى (وأمرهم شورى بينهم) فأصبح من حق أي مسلم ترشيح نفسه لتولي امر المسلمين طالما توفرت فيه الشروط المقرة من جهة الاختصاص التي تنوب عن عامة الشعب في تزكية الاشخاص الذين يرغبون في ترشيح انفسهم، والتي تغيرت في تسميتها وتشكيلها تبعاً للتطورات الزمانية والمكانية، وهذا يعني ان النظام الاسري الوراثي لا مكان له في الاسلام لانه يتناقض مطلقاً مع مبدأ المساواة نظراً لما فيه من تمييز أسري عرقي وطائفي لمجموعة محدودة من البشر مقابل اكثرية لايجوز لها حتى مجرد التفكير الذاتي في الاقتراب من الحكم، الامر الذي تسبب في الصراعات والحروب الداخلية التي انهكت واستنزفت قوة المسلمين على مدى التاريخ وأدت بهم الى ما وصلوا اليه من تقسيم فمن دولة واحدة الى دول متعددة فدويلات متفرقة ثم ايقونات صغيرة لا وزن او قيمة لها في المحافل الدولية، فكانت النتيجة ضعفهم وتخلفهم في شتى جوانب الحياة المختلفة. ووفقاً للمفاهيم الحديثة للديمقراطية كان لزاماً على اي دولة ارتضت النهج الديمقراطي وما فيه من تعددية سياسية خيارها السماح للاحزاب والتنظيمات السياسية بممارسة نشاطها السياسي من خلال التنافس في البرامج الانتخابية للتأثير على المواطنين من اجل الحصول على اصواتهم إبان الانتخابات المختلفة بغرض الوصول الى سدة الحكم ليصبح هناك حزب أو أحزاب حاكمة واخرى معارضة وكلهم يمارسون صلاحياتهم في إطار القوانين المستمدة من الدستور الذي يمثل المرجعية العليا للجميع في الحكم كانوا او في المعارضة، وتلك هي اللعبة الراقية والجميلة للديمقراطية فلا غالب ولا مغلوب ومن يكون اليوم في السلطة فقد يصبح غداً في المعارضة ومن يعارض اليوم من اجل تحقيق الافضل للوطن والشعب فلا محال انه سيكون غداً على رأس السلطة وهكذا دواليك. اقول ذلك واقصد به ان الديمقراطية هي الجزء والدستور هو الكل، ووفقاً للمنطق والقوانين السماوية والارضية فان الجزء لا بد له ان يعمل في اطار الكل، ولا يمكن بأي حال من الاحوال للجزء ان يتجاوز الكل محاولاً الالتفاف عليه والعمل خارج اطاره، وفي حالة حدوث ذلك يكون الجزء قد وقع في المحظور ويوصف ب"الشاذ"، ولن يكون حينئذ امام الكل من اجل الحفاظ على المصلحة العامة سوى خيارين الاول: محاولة اصلاح الخلل الذي ادى الى شذوذ الجزء لما من شأنه تصحيح مساره واعادته للعمل في اطار الكل مستخدماً في سبيل ذلك كل الوسائل الديمقراطية المتاحة وفي مقدمتها الحوار، وفي حال فشل هذا الخيار سيكون من الواجب على الكل استخدام الخيار الثاني المتمثل بتطبيق صلاحياته الدستورية الكفيلة باجبار الجزء على العودة الى اطار الكل.. وذلك بالضبط ما تمارسه معارضة المشترك في بلادنا من بعد الانتخابات الرئاسية والمحلية الاخيرة فهي تدفع بوعي او بدون وعي عن جهل او تجاهل الديمقراطية الى الخروج عن مسارها الصحيح من خلال تجاوزها لكل القوانين والضوابط المنظمة لاي منهج ديمقراطي كما في كل المجتمعات الديمقراطية والتي تجسدت بابتعادها عن الوسائل السلمية للديمقراطية المتمثلة بالحوار والمظاهرات والاعتصامات المنظمة والهادفة ولجوئها بدلاً عن ذلك الى استغلال بعض القضايا من اجل تهييج الشارع ودفعه نحو مظاهرات عنيفة غير قانونية ولا تمت الى الديمقراطية بصلة. وقد يقول قائل: ان ردود الافعال غير الديمقراطية وغير الحضارية الصادرة عن معارضة المشترك منذ هزيمتها في الانتخابات الاخيرة لها ما يبررها في كونها تأتي كرد طبيعي على ما حدث من تزوير إبان تلك الانتخابات مارسها الحزب الحاكم بحكم السلطة التي يمتلكها ادت الى تغيير النتائج لصالح مرشح الحزب الحاكم، وافشال مرشحهم بعد ان كان النجاح حليفه. وهذا القول يأتي وفقاً للاسطوانة المشروخة والمملة التي لايزال يحلو لبعض قيادات المشترك ترديدها دونما حياء او خجل، حتى بعد مرور عام ونيف على تلك الانتخابات!!. واقول بالاحرى: ان مثل هذا المبرر ما كان ليقنع الآخرين في الداخل والخارج لو انهم استخدموه بعد اعلان نتائج الانتخابات مباشرة، فكيف ستقنعهم به اليوم بعد مرور كل هذا الوقت؟، وهذا ان دل على شيء فإنما يدل على مدى الافلاس الذي وصلت اليه معارضة المشترك، لأن العجز عن ايجاد مبرر منطقي الى حد مقبول ومعقول لاقناع الآخرين بالتصرفات اللاأخلاقية واللاقانونية ومن ثم اللاديمقراطية فذلك ما يسمى ب"الافلاس السياسي الحقيقي" الذي يأتي كنتاج طبيعي للغرور الذي قد يصاب به بعض السياسيين فيدفع بهم الى الاستهانة بالخصوم والتهور في استنفاذ كل اوراق اللعبة في وقت واحد كما حصل مع اخواننا في معارضة المشترك عندما استنفذوا كل اوراقهم السياسية دفعة واحدة قبل الانتخابات بفترة وجيزة تجسدت من خلالها قمة الانتهازية السياسية التي مارسوها ضد الحزب الحاكم ابتداء من اللجنة العليا للانتخابات مروراً بتشكيل اللجان الاشرافية والاصلية والفرعية واخيراً وليس آخراً مشاركة المندوبين والمراقبين المحليين والدوليين من صحافيين واعلاميين بذلك الكم الهائل للاشراف على عمليتي الاقتراع والفرز بمختلف المراكز الانتخابية في كافة ارجاء الوطن، مما جعل مسألة التزوير من الصعوبة بمكان ان لم نقل انه المستحيل بذاته مهما سلمنا بوقوع بعض الاخطاء البسيطة هنا وهناك، ولو لم تكن معارضة المشترك على يقين كامل بنزاهة تلك الانتخابات، لما كانت سلمت واقرت بنتائجها بتلك السهولة وكانت اقامت الدنيا ولم تقعدها على مستوى الداخل والخارج تماماً مثلما تقوم به الآن من استغلال لبعض القضايا من اجل تهييج الشارع ودفعه نحو العنف لاحداث فلتان امني على مستوى الوطن بأكمله على قاعدة "عليّ وعلى أعدائي". وقد يقول آخر : ان السبب يرجع الى يأس قيادة معارضة المشترك من جدوى الديمقراطية في وصولهم الى السلطة بسبب حداثة التجربة الديمقراطية وتدني نسبة الوعي لدى جمهور الناخبين، ومن ثم فان اختيارهم للمرشحين كان وسيظل لفترة طويلة من الزمن يخضع لتأثير المنصب والمال والمشيخة التي يستحوذ عليها الحزب الحاكم بحكم السلطة التي يمتلكها اكثر من تأثير البرامج الانتخابية للاحزاب والقدرات العلمية والعملية للمرشحين. فأقول : قد يكون في ذلك الطرح شيء من الحقيقة في كون الديمقراطية لا تزال وليدة وفي طور النشوء وتحتاج الى ممارسة اطول من قبل المواطنين لتكبر وتصل الى مستوى النضج، وصحيح ان تدنى نسبة الوعي لدى الهيئة -الناخبة- وهو امر طبيعي نتاج حداثة التجربة مضافاً اليه ضعف الاقتصاد قد يجعل للمغريات المادية تأثير غير بسيط على تصويت الناخبين لهذا المرشح او ذلك لكن الصحيح ايضاً ان المال والمشيخة ليسا حكراً على الحزب الحاكم فقط بل يمتلكهما ايضاً كثير من قيادات معارضة المشترك الى الحد الذي قد يصل فيه ما لدى بعض قيادات المشترك من المال والمشيخة اكثر مما لدى الطرف الآخر، وكذا بالنسبة للمناصب الادارية في مؤسسات الدولة، فان لديهم عدداً غير قليل من الموظفين قد لا يكونون في المواقع القيادية ولكنهم متواجدون على اقل تقدير في المناصب المتوسطة والصغيرة والتي يكون تأثيرها على جمهور الناخبين اكبر من تأثير المواقع القيادية كون تلك المناصب تتعامل مباشرة مع المواطنين. كما ان من الصحيح كذلك ان مستوى الوعي بممارسة النهج الديمقراطي لدى المواطنين يزداد يوماً بعد يوم، وذلك ما نلمسه على ارض الواقع، ففارق كبير بين مستوى الوعي الذي مارسه الناخبون في الانتخابات الرئاسية والمحلية الاخيرة عنه في الانتخابات المختلفة السابقة ولو كانت معارضة المشترك تنتهج المعارضة البناءة التي تحرص على الافضل للشعب والوطن، لكانت حققت نتائج اكبر بكثير مما حصلت عليه خاصة وان عدد غير قليل من الظروف في حينه كانت تخدمهم اكثر مما تخدم الحزب الحاكم، تلك الظروف التي كان يدركها كثير من قيادات المشترك، ولكنهم لم يتمكنوا من توظيفها بشكل صحيح. وعلى العكس من ذلك ادخلت الى نفوسهم الغرور السياسي فدفعهم ذلك الى التقليل من حجم خصومهم السياسيين ومن ثم الاستعجال في حرق كل اوراقهم امام الحزب الحاكم فكانت النتيجة خسارتهم بذلك الحجم الكبير الذي لم يكونوا يتوقعونه ابداً الامر الذي تسبب لهم في صدمة كبيرة لم تكن مطلقاً في حساباتهم السياسية وبدلاً من مراجعة اخطائهم السياسية التي اوصلتهم الى تلك الخسارة استمروا في غرورهم السياسي الكاذب واخذتهم العزة بالاثم، وضاقت صدورهم بما رحبت من جدوى الديمقراطية في اشباع جوعهم السياسي اللامحدود للسلطة وما فيها من مغانم وثروات لا طائل منها كما يظنها اولئك الذين لا يدركون حجم الامانة وجسامة المسؤولية، فتراهم يبحثون عن اقصر واقرب الطرق للوصول الى سدة الحكم اكان ذلك على حساب الديمقراطية التي طالما ظلوا يزايدون عليها ولكن فقط عندما تكون نتائجها توافق هواهم اما ان كانت ضدهم فوداعاً للديمقراطية واهلاً وسهلاً بالديكتاتورية - الشمولية بل والامامية الاسرية - المذهبية.. او كان ذلك على حساب وطن الثاني والعشرين من مايو بل ولو كان حتى على حساب الشعب بأكمله من ادناه الى اقصاه، فليس المهم بالنسبة لهم الارض والانسان، بل الوصول الى السلطة باسرع وقت ممكن ليصبحوا حكاماً ولو على انقاض الوطن ودماء الشعب مستندين في ذلك الى القاعدة الميكافيلية القائلة بأن "الغاية تبرر الوسيلة" وهم بفهمهم الخاطئ والقاصر لتلك القاعدة يفترون على أبي السياسة الذي كان يقصد من ذلك ان الغايات النبيلة والعظيمة التي تهدف الى تحقيق الافضل للاوطان والشعوب وفي مقدمتها وحدة الارض والانسان تشفع للسياسيين استخدامهم الوسائل اللاأخلاقية ولكن فقط عندما لا يجدون من البدائل والخيارات سواها.. فهل الغاية التي نلمس بدايتها من جراء استخدام معارضة المشترك للوسيلة اللاأخلاقية واللاديمقراطية والمتمثلة بتهييج الشارع فعلاً نبيلة وعظيمة ستؤدي الى مزيد من التلاحم والتعاضد بين ابناء الشعب بمختلف ألوانهم وأطيافهم ام انه العكس من ذلك تماماً فلا نلمس منها ألاّ بداية خلافات مناطقية نتنة ستؤدي لا محال الى فتن وصراعات اهلية قذرة ومن ثم مزيد من التدهور في الاوضاع الاقتصادية نتاج انشغال السلطة باخماد تلك الفتن بدلاً من التفرغ للبناء والتنمية؟ اسئلة اترك اجابتها لاخواننا في معارضة المشترك. وخلاصة القول ان على اخواننا في قيادة المشترك ان يفهموا ويدركوا جيداً ان الديمقراطية، هي ذلك الجزء المحكوم بضوابط وقوانين مستمدة من الدستور، واستمرارهم في استخدام الشارع كوسيلة على تلك الصورة غير القانونية وغير الديمقراطية سيجعل الديمقراطية لا محال تبتعد عن القوانين ومن ثم تصطدم بالدستور الذي تدور في فلكه كل الجزئيات ومن ضمنها الديمقراطية وعندها ستقع الديمقراطية في مأزق لا يحمد عقباه، وهذا ما لا نتمنى حدوثه لان الديمقراطية مهما كانت عيوبها فلن يكون اسوأ منها إلاّ غيابها لأن غياب الديمقراطية يعني عودة الانظمة الديكتاتورية والاسرية المؤدية قطعاً الى بروز مسألة الاقلية والاكثرية وما يستتبعه من صراعات مناطقية تؤدي الى تمزيق الوطن والشعب. ان الديمقراطية يا اخوتي في السلطة والمعارضة كما تعلمون هي صمام الامان للوحدة وهي كذلك سفينة النجاة لكل ابناء الشعب اليمني من ويلات الامواج الكامنة خلف الصراعات على السلطة والتي ستقوده لا مناص الى شاطئ الامان والازدهار السياسي والاقتصادي فلا تؤذوها فتضروا انفسكم وشعبكم ووطنكم فتصبحوا على ما فعلتم من النادمين.