محمود ياسين - شكل من مجازفة وجودية ان تمضي وراء غواية الأسلوب الذهاني في حياة الكتاب الكبار ،لتنجز سرديات ملهمة وباعثة على تقدير الاستسلام للتهويمات .
ان تفقد يقظتك في باريس ليس كماهو الأمر في صنعاء ، ذهانك مأمون في مدن وبلدات الغرب وستحظى بحماية المنبهرين بك وكأنهم بصدد حماية العبقرية ، ولو أن تترك وشأنك ، عندنا ستكون أخرقا وعرضة للنيل منك بوصفك رجلا هشا ، بينما كانت هشاشة الكبار من ستاندال إلى لويجي براندللو وسارتر ،وكاهن البوح بالوهن والضعف وغرابة الأطوار فرناندو بيسوا ،وقد القى بتعريف مقتضب لما هو عليه من " لا طمأنينة " .
إقرأ مذكرات ماركيز وكيف كان في إحدى عواصم أوروبا يختبر مذلات الجائع والكسول في آن ، كيف كان ينتظر حتى يفرغ الجزار من بيع مالديه من لحم لزبائن الحي ليلتقط ماتبقى من عظام يصنع منها شوربة تدفئ مساءاته القارسة .
سيحتقرونك لو كتبت شيئا من هذا وتحظى بازدراء الوعي المشحوط ، وها انا وقد حضر هذا الوعي مهتم للتنويه وإضافة جملة " لا لا بالنسبة الحمد لله لم أختبر شيئا من هذا "
أعظم اللوحات تدين لحالة مزيج من الذهان والاعتباط واللاجدوى ، سوريالية الأسباني الذي ترك ملامحه قناعا لعصابة تلفزيونية تتمتع بنزعة خيرية ما أثناء سرقة البنوك ، وأن تحاكي مزاج سلفادور دالي في شرقنا العربي الأوسط ستجابه بالازدراء والنبذ ، مابالك بكونك يمني ، عليك ان تشتحط مرتجلا معادلة حياة واقعية تبدو مستحيلة كلية ،حيث لا تدري كيف ترتب روحك بين الجدية الرهيبة وإفصاحات " رجال وبن ناس " وبين تهويماتك وضروب ضعفك ناهيك عن ان تكون على قدر من الهشاشة وغرابة الأطوار ، تلك الانفعالات التي يوقد منها الكبار ما قدموه لنا من حالات انكشاف إنساني مهول ، يفصح عن الاستسلام والإذعان الكلي لوثنية الفن ، الفن بوصفه ثقبا يتسرب منه الوعي الباطن مجتذبا الكلمات والألوان والروائح ،ناهيك عن النفاذ لجوهر البشر من خلال هدر جوهرك مادة تجريب واختبار طوعي. استسلامك لتداعيات وعيك الباطن هنا هو مجازفة بوجودك الذي قد يتخلى عن اي شيئ الا عن كونه محترما وذكيا وكامل الأهلية .
والفن هو فقدان للأهلية بالدرجة الأولى ، ذلك العطب الذي هو في المحصلة تمرد على القيم المتداولة والضبطيات مضافا إليها انكشاف الذات والسماح لجانبك الرئيوي والحيواني معا بالتجول هكذا بضمانات من رعاية معبد الفن .
هناك توليستواي وجيتيه مثلا ،تمكنا قليلا من السيطرة على المعادلة وأمضى هذا المثال حياة تبدو على درجة من الترف والمعقولية ، ويقال ان أعلى درجات الوعي هو السيطرة على تفاعلات اللاوعي .
انتهى بيتهوفن وهو يتبادل السباب مع المارة ويناوش الصبيان بالحجارة والقذارات ، ولقد خاض جان جينيه مواجهة مرعبةةوبذيئة مع مجتمع باريس الذي أسماه " اللقيط" فرد على الشعب الفرنسي على انه مجتمع لقيط .
حتى وهم يعانون المتاعب ويتعرض بعضهم للنبذ ، لكنهم ظلوا متمتعين بذلك القدر من الأمل وعلى الأقل النجاة من التنكيل .
كانت زوجة سقراط تصرخ في وجهه بوصفه مجنون أثينا المتوهم بكونه حكيما لا يعود كل مساء بيدين فارغتين وقلب ممتلئ بالحكمة ، وفي النهاية وجد من يقدس روحه ويقتفي رؤاه ومقارباته ،
ماشأن سقراط هنا ؟ لا أدري ، ربما هو استحضار المثال الأول والخالد بوصفه قربانا للحكمة ، حياتنا برمتها قربانا للحمق الخلو من اي غواية وجاذبية . قربانا للهدر لمجرد البقاء قيد التفس والاستيقاظ كل يوم وبيقظة متوثبة وجاهزة لصد اي محاولات للمخيلة او الإفلات.
هو كان حديثا عن مقاربة أدب وفن مع معادلة حياة لا تسمح لأحدنا بأي جنوح خارج الذهنية الجمعية ونمط عيش خليق بمغترب محظوظ او ابن شيخ كامل الجاهزية او عامل طلاء باليومية وحتى كاتب بيانات منضبطة وحاذقة في حزب او مؤسسة إعلامية.
غواية الفن تعني استجابتك لمس شيطاني ، او اقتفاء صوت نداء غامض ومجهول يقودك للهاوية .
كن يقظا يا فتى ، والا تخطفتك الضباع .
|