جلال علي الرويشان * - تحتفل بلادنا في الــ30 من نوفمبر 2021م، بالذكرى الــ 54 للاستقلال المجيد..
في التاريخ.. كما في قوانين نيوتن الفيزيائية.. لكل فعل، رد فعل، مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه.. وفي حركة التاريخ السياسي، قد لا تتحقق المساواة بين القوتين بنفس المقياس والمعيار الفيزيائي، غير أن استمرار رد الفعل، وعدم توقفه، يحقق تلك القوة والندية والتوازن..
وفي التاريخ الحديث، وفي القرنين التاسع عشر والعشرين تحديداً، استعمرت دولٌ دولاً أخرى، وأخضعتها لنفوذها، وسلبتها حريتها وثرواتها..
ومن عبث التاريخ السياسي خلال تلك الحقبة، استخدام مصطلح "الاستعمار".. وهو لفظ في ظاهره الرحمة، وفي باطنه العذاب.. فبرغم أن التعريفات السياسة، عرَّفت الاستعمار بأنه: ظاهرة تهدف إلى سيطرة دولة قوية على دولة ضعيفة وبسط نفوذها، من أجل استغلال خيراتها في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ونهب وسلب ثروات البلاد المستعمرة، فضلاً عن تحطيم كرامة شعوب تلك البلاد وتدمير تراثها الحضاري والثقافي، وفرض ثقافة الاستعمار على أنها الثقافة الوحيدة القادرة على نقل البلاد المستعمرة إلى مرحلة الحضارة، أي أنه (كمصطلح) يعني تسلط أمة على أمة أخرى وتحكمها بفكرها وقيمها واقتصادها وقوتها العسكرية وسياستها العامة مع ادعاء أنها تريد إعمارها..
إلا أن المفهوم اللغوي للاستعمار، هو التعمير والإعمار، من إحياء المكان بجعله عامراً وآهلاً وموفور النعمة، وعمَر المكانُ بالنَّاس : كان مسكونًا بهم، وعمَر المكانَ : أصلحه وبناه وأقام على زيارته.. وفي القرآن الكريم، قال تعالى : (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) ( هود -61 )، وقال تعالى : (أَوَ لَم يَسِيرُواْ فِي الأَرضِ فَيَنظُرُواْ كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم كَانُواْ أَشَدَّ مِنهُم قُوَّة وَأَثَارُواْ الأَرضَ وَعَمَرُوهَا أَكثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا) (الروم-9 )..
.. أرأيتم كيف انعكست المفاهيم والمصطلحات !؟..
ومع منتصف القرن العشرين، وبنهاية الحرب العالمية الثانية تقريباً، وتأسيس الأمم المتحدة بمبادئها ومواثيقها، تغيَّرت قواعد وآليات الدول الكبرى تجاه الدول الأضعف والأصغر، ولم يعد هناك احتلال مباشر، ومندوب سامٍ، وحاكم مدني يحمل جنسية المحتل، وكان هذا التحوُّل ضرورياً ولازماً كديكور، يشبه ورق الجدران، لتزيين مبادئ الأمم المتحدة ومواثيق حقوق الإنسان.. ثم ما لبثت دائرة التحولات أن أكملت دورتها التاريخية.. فما أن شارف الربع الأول من القرن الحادي والعشرين على الرحيل، إلا ورأينا الاحتلال يعود بمسميات وأشكال متعددة.. فمن الحاكم المدني الأمريكي بريمر في العراق، إلى محتل يلبس قفازات الوكلاء، ومحتل أصغر يخدم أهداف المحتل الأكبر، ويعبث هذا الاستعمار الحديث بالكثير من دول العالم الثالث، وكان نصيب الأسد من هذه الأيادي الخفية، لعدد من الدول العربية، التي دفعت - ولا تزال - تدفع ثمناً باهظاً لسلعة لم تطلبها، ولا تعرف ما هي !!
وبرغم هذا كله، لم ينته الاحتلال المباشر للدول الاستعمارية الكبرى في العالم كله.. تفحصوا خريطة العالم جيداً.. وستجدون أن دولاً غربية مثل أمريكا وفرنسا وبريطانيا وأسبانيا تستحوذ على جزر ومناطق واسعة من العالم تبعد عنها آلاف الكيلومترات.. في البحر الكاريبي والمحيطين الهادي والأطلسي.. والتي يطلقون عليها أراضي ما وراء البحار، ومنها - على سبيل المثال - الجزر العذراء البريطانية، وهي أراضٍ تابعة للمملكة المتحدة وراء البحار، وتشتمل على أكثر من 50 جزيرة واقعة في الكاريبي، شرق بورتوريكو.. وكذلك الجزر العذراء الأمريكية، وغويانا الفرنسية، وجزر الكناري الإسبانية.. وللقضاء على السكان الأصليين لتلك الأراضي، أُطلقت التسميات المضللة، مثل " الجزر العذراء " و" ما وراء البحار "..
ولم تكتف الدول الاستعمارية بالاستعمار المباشر والاستعمار غير المباشر، بل تعدت ذلك إلى خلق حالة سياسية لتجزئة المجزأ وتفتيت المفتت وتقسيم المقسم.. وإذا تفحصنا خريطة العالم السياسية، فسنرى ذلك بوضوح.. فقارة أفريقيا - على سبيل المثال - وهي ثاني أكبر قارات العالم من حيث المساحة وعدد السكان، حيث تأتي في المرتبة الثانية بعد آسيا، وتبلغ مساحتها 30.2 مليون كيلومتر مربع، وتعد أغنى تجمع للموارد الطبيعية مثل النفط والنحاس والماس والبوكسيت والليثيوم والذهب وغابات الأخشاب الصلبة والفواكه الاستوائية، حيث تشير التقديرات إلى أن 30٪ من الموارد المعدنية المستخرجة من الأرض موجودة في القارة الأفريقية، وأن 12 ٪ من النفط المنتج في العالم يأتي من أفريقيا..
وعلى الرغم من وفرة كل هذه الموارد الطبيعية، إلا أن أفريقيا لا تزال هي الأكثر فقراً وتخلفاً بين قارات العالم..
والأدهى والأمرُّ من ذلك، أنها أكثر قارات العالم من حيث عدد الدول، حيث تضم - بخلاف المنطقة المتنازع عليها من الصحراء الغربية - 54 دولة.. ويتقاسمها الاستعمار القديم - الجديد، مابين دول الكومنولث والدول الفرانكفونية، ومسميات أخرى.. لتبدو الصورة أوضح، لاستعمارٍ أحدث وأشد ضراوةً وضرراً من الاستعمار القديم..
وعود على بدء.. نحتفل هذه الأيام بالذكرى الــ54 للاستقلال، ومن خلال هذه المناسبة، علينا أن نعرف أن هناك مستعمرين جدداً، لنفس المناطق التي تم تحريرها من المستعمر القديم، وأن التاريخ يعيد نفسه، وأن لكل فعل، رد فعل، مهما كانت الأحوال والظروف.
قال تعالى : (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)
صدق الله العظيم
* عضو اللجنة العامة
نائب رئيس الوزراء
|