إبراهيم العشماوي -
عندما طلب مني الزميل العزيز يحيى نوري رئيس تحرير جريدة »الميثاق« أن أدون كلمة بمناسبة مرور أربعة عقود على تأسيس الجريدة الرصينة لم يكن يدري أنه فجَّر بداخلي ذكريات حميمة مع اليمن أرضاً وإنساناً، مهنة وحياة، بشراً ومسئولين، لا تزال عميقة الأثر في نفسي ومقيمة بين سويداء الفؤاد.. عدت بشريط الذكريات إلى أكثر من ثلاثين عاماً وبالتحديد قبل إعادة تحقيق وحدة اليمن أعظم منجز عربي في العصر الحديث عام 1990م كان لي حظ متابعته من أرض الميدان.. كنت أحضر جلسات التثقيف السياسي التي تنعقد يوم الخميس في كل مؤسسات الدولة لمطالعة وتدارس "الميثاق الوطني" الوثيقة الأهم التي أثمرها حوار طويل مطلع الثمانينيات وتأسس على إثره المؤتمر الشعبي العام.. الميثاق الوطني من أدبيات السياسة المنفتحة على العصر والمطرزة بتراث وتاريخ عريق ، أصالة ومعاصرة في نفس الوقت ، اعتدال في الفكر السياسي ووسطية في النهج جذبت إليها كل التيارات السياسية يمينا ويسارا حتى أن زعماء الأحزاب السياسية كانوا أعضاء فاعلين في بنية المؤتمر وجزءا من النسيج الوطني العام.. جريدة الميثاق أول من استقبل مقالاتي في فبراير 1990م عندما كان الأستاذ محمد يحيى شنيف مديرا للتحرير وحصلت منها على أول مكافأة إنتاج فكري قبل أن أعمل مؤقتاً في جريدة الثورة ومجلة الإرشاد التابعة لوزارة الأوقاف وبعدها خطفتني ست الكل جريدة " 26 سبتمبر " كما وصفها أستاذنا الراحل العظيم صالح الدحان.. كنت أكتب مقالات وتحليلات سياسية عربية متزامنة مع تطورات ساخنة في حرب الخليج واجتياح العراق للكويت وغيرها، والحقيقة لم ألحظ مقصاً للرقيب طال أياً منها.. ظلت جريدة الميثاق نبض الناس وترجمان أحلامهم ومنبر وعيهم ولم تنغلق على الإطار الحزبي الضيق بل فتحت ذراعيها لكل الأقلام والاتجاهات وكانت تناقش القضايا بشفافية وصراحة دون تهويل أو تهوين بل بالتزام وطني حاكم.. باختصار رأى فيها المواطن اليمني نفسه وهمومه، ونظراً لقربها من مصادر صناعة القرار كان كلامها مهماً ومؤثراً ويؤخذ بكل اعتبار . توالي على رئاسة تحرير الجريدة زملاء أعزاء وصحفيين كبار نجحوا في الحفاظ على هوية الميثاق وكيانها المتميز في زحام المطبوعات التي أعقبت تحقيق الوحدة للتعبير عن التيارات السياسية التي بزغت على السطح ومنهم الراحل حسن اللوزي وإسكندر الأصبحي والوزير عبدالله غانم والراحل محمد علي سعد ومحمد شاهر وعلي الحزمي وأحمد الصوفي وأحمد الشرعبي ومحمد أنعم وعباس غالب وغيرهم.. بعد أربعين عاماً بقيت صحيفة الميثاق رغم تحديات الواقع ومنغصات الأوضاع معبرة عن جزء معتبر من الشعب اليمني وحافظت على وجود المؤتمر الشعبي كحزب قائم ينتسب إليه قطاع واسع من اليمنيين الذين يرون فيه منبراً مناسباً لمزاجهم وكياناً يمثلهم أصدق تمثيل في مواجهة الرياح العاتية حتى تستقر سفينة اليمن إلى السلام وبر الأمان بإذن الله .
وصلتُ اليمن زائراً في رحلة صحفية كان يفترض أن تكون عابرة لبضعة أيام لاستكشافها وسبر أغوارها لكنها امتدت إلى 24 عاماً.. دخلت صنعاء في 3 يناير 1990م وغادرتها في 28 سبتمبر 2013م بعد رحلة حياتية شكلت تجربة مثيرة ومهمة في مسيرتي الحياتية والصحفية .
كانت اليمن في مخيلتي أرض البخور واللبان ، وحضارة السدود والمدرجات الزراعية ، بلد الأحقاف وعاد وموطن الأنبياء، وملكة سبأ ، أرض الأجداد ومهد العرب جميعاً.. وقعت في غرام اليمن.
وصلت صنعاء وكان الدولار يقل سعره عن 10 ريالات حيث صرفت من المطار 100 دولار بحوالي 950 ريالاً يمنياً والفضل في حالة الاستقرار الاقتصادي النسبي في هذا الوقت يعود إلى تحويلات العاملين اليمنيين في الخارج حتى أن طبيباً مصرياً كان يتقاضى أتعابه في منطقة رداع بمحافظة البيضاء بالدولار نظراً لاغتراب أبناء المنطقة في الخارج .
في لوكاندة بسيطة في ميدان التحرير أقمت بضعة أيام ، وفي شارع علي عبدالمغني وتقاطعه مع شارع الزبيري يقع البنك المركزي اليمني ، بجانب البنك يجتمع المعلمون المصريون في منتدى آزال بمواجهة فندق سبأ نهاية النهار للسمر وتسلم الخطابات القادمة من مصر وحل المشاكل ومشاهدة مباريات كرة القدم حيث تلعب مصر في كأس العالم عام 1990م، كل محافظات مصر هناك ، الصعايدة والبحاروة ، كبار السن من المعارين وصغارهم من المدرسين المتعاقدين وقليل من الحرفيين والعمال.
نبشت الميثاق الصحيفة في نفسي ذكريات الإنسان في اليمن ، فهو رائع بسيط يعيش على الفطرة ويتصف بالذكاء وحسن العشرة وإكرام الضيف ولديه هيام بكل ما هو مصري ، في دقائق قليلة يمكن أن يصبح اليمني صديقاً صدوقاً لك ، وفياً مخلصاً ولديه استعداد أن يموت من أجلك ولا يتأخر في نجدتك ، فاجأتني بساطة المجتمع اليمني وسهولة تآلف الناس مع بعضهم ، فالوزير يتناول طعامه بجانب العامل، والسفير يجلس حارسه إلى جواره في جلسة القات ، ومن الطبيعي أن ترى الناس بينهم رتباً عسكرية متفاوتة يفترشون شوارع وأزقة صنعاء الأرض ويأكلون معاً " السلتة.
احتفلت مع اليمنيين بتحقيق الوحدة بين شطريها كحلم عربي كبير وبكيت في مسيرات طافت شوارع صنعاء فرحاً بهذا الحدث الكبير ، وتابعت التطورات الدراماتيكية في علاقات اليمن بمحيطها الجغرافي نتيجة موقفها من حرب الخليج ، كما حضرت استلام اليمن لجزيرة حنيش في البحر الأحمر عام 1998م بعد أن احتلتها القوات الإريترية لعدة شهور، ورافقت وزير الدفاع اليمني في استلامها بعد نجاح صنعاء في استعادتها بالتحكيم الدولي بمساندة خبراء قانون مصريين في مقدمتهم الدكتور مفيد شهاب ، فضلاً عن مشاركتي في كل الفعاليات الانتخابية والأحداث السياسية ، وجبت أغلب مدن وقرى اليمن زائراً وسائحاً وكاتباً منبهراً بكرم وجود الشعب اليمني ومطلعاً على تراثه الإنساني الثري .
في عام 1991م التقيت مع أديب اليمن الكبير عمر الجاوي رئيس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين وهو رجل مثقف ووحدوي حتى النخاع حدثني عن نضال الأدباء لتحقيق الوحدة قبل السياسيين بمراحل ونشاطهم وتغنيهم بالوحدة.. في اليمن رمزان أدبيان شـامخان تشرفت باللقاء معهما أكثر من مرة في عام 1991م إلتقيت مع أديب اليمن الكبير عمر الجاوي رئيس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين وهو رجل مثقف ووحدوي حتى النخاع حدثني عن نضال الأدباء لتحقيق الوحدة قبل السياسيين بمراحل ونشاطهم وتغنيهم بالوحدة في اليمن، رمزان أدبيان شـامخان تشرفت باللقاء معهما أكثر من مرة هما الدكتور عبدالعزيز المقالح وعبدالله البردوني ، كلاهما قامة شعرية وأدبية ومدرسة متفردة وإن اختلفا في المنهج والأسلوب ، ومن أدباء اليمن الذين اقتربت منهم الشاعر الكبير محمد الشرفي جارنا في شارع الزراعة بصنعاء وهو من أكثر الأدباء شاعرية وتدفقاً وكتبت عنه رسائل جامعية وله مسرحيات شعرية منها " طاهش الحوبان "، وعُرف الشرفي بانتصاره لقضايا التحرر ومساواة المرأة بالرجل والتصدي للزواج المبكر .
في عيد الميثاق وذكرى تأسيسها يسعدني أن أهنئ القائمين عليها وقيادة المؤتمر الشعبي العام وخاصة الأستاذ صادق بن أمين أبو راس رئيس الحزب والذي أعرفه جيداًقامة وطنية وعربية كبيرة والتقيته كثيراً منذ كان وزيراً للزراعة ومسئولاً وقائداً سياسياً وقبلياً مرموقاً ومهاباً.. راجياً للمؤتمر الشعبي و»الميثاق« الازدهار، ولليمن الحبيب أن يستعيد عافيته ويعود واحة للسلام والأمن.
❊ مدير تحرير الأهرام -مدير مكتب الأهرام بالدقهلية - وصحفي متخصص في شئون اليمن
| 
«الميثاق».. تاريخ من المهنية والاعتدال 
