ممدوح مبروك* - بات الحديث عن مستقبل المنطقة العربيّة من الموضوعات الملحّة التي تفرض نفسها بقوّة على ساحات النقاش والدوائر السياسيّة والأكاديميّة خاصّةً بعد الضغوط السياسيّة والحروب الأهليّة التي أثَّرت بالسلب على المنطقة خلال السنوات الأخيرة، وما ترتَّب عنها من تفشّي التنظيمات المتطرّفة التي نصّبَت نفسها بديلاً للدولة الرسميّة، ومحاولاتها المستمرّة في إضعاف ما يُسمّى الدولة الوطنيّة.
تُعَدّ مسألة الحفاظ على الهويّة من الأمور بالغة التعقيد؛ حيث تتطلَّب عمليّة إقامة الدولة الوطنيّة، القادرة على مُواجَهة التطرُّف، العملَ بشكلٍ جادّ على تفعيل دولة القانون من خلال ترسيخ قيَمٍ معيَّنة مثل: الشفافيّة، والمصارحة، والتعايش السلمي، وقبول الآخر، وغيرها.
لا يُمكن تقديم نموذج عربي موحَّد للدولة الوطنيّة؛ فمن أجل تأسيس أرضيّة مُشترَكة يمكن من خلالها حلّ مشكلاتنا، يجب الاعتراف أوّلاً باختلافاتنا كمُجتمعات عربيّة. فلكلّ مجتمع خصوصيّته النّابعة من طبيعة أرضه التي تراكم عليها تاريخه، وثقافته، وإرثه الديني، وتركيبته السكانيّة... إلخ. لكن على الرّغم من هذا الاختلاف، هناك عناصر أساسيّة لا غنىً عنها لحماية مفهوم الدولة الوطنيّة الرسميّة، قد تختلف الدول في ما بينها في صوغه وتطبيقه وفقاً لطبيعة كلّ دولة، لكنّها تتّفق في الأُسس والمبادئ العامّة الحاكمة، وهذه العناصر هي:
أوّلاً: التنمية
مرَّ المصطلح تاريخيّاً بمراحل عدّة؛ ففي خمسينيّات القرن الماضي وستّينيّاته، تعامَل الدّارسون مع مفهوم التنمية على أنّه مرادف لمفهوم "النموّ الاقتصادي"، وبعد حركات التحرُّر الوطني تمَّت إشاعة أنّ تلك الدول ستستطيع تحقيق التنمية عقب التحرُّر، إلّا أنّ هذا الأمر لم يتحقّق حيث كانت الأوضاع أفضل بكثير وقت الاستعمار.
لا تتمثّل التنمية في وفرة الموارد فقط، إنّما الأهمّ هو العنصر البشري باعتباره محور التنمية. فالاستعمار البريطاني في الهند فرَّغها من الكوادر البشريّة، ويُحسب لـ "نهرو" وقتها تأسيس معهد الإدارة العليا إدراكاً منه لأهميّة العنصر البشري، وهذا ما أكَّد عليه "فوكوياما" حين أشار إلى أنّ اليابان عقب الحرب العالميّة الثانية لم تُبنَ على المَوارِد إنّما على الكفاءات البشريّة.
كذلك لا يُمكن إغفال أهميّة السياسات العامّة في التنمية، الأمر الذي أدّى إلى ظهور بعض المفاهيم مثل: مفهوم الحُكم الرشيد، والحَوْكمة، والشفافيّة، والمُشارَكة، والإدارة الرشيدة للموارِد العامّة داخل الدولة، الأمر الذي وضعَ مفهوم التنمية في نقطة تماسّ مع مختلف العلوم الاجتماعيّة (سياسة، واقتصاد، وعلم اجتماع.. إلخ).
يتطلَّب تحقيق التنمية الإيمانَ بقيمة الفرد، وذلك بأن يحتلّ المواطن الصفوف الأولى؛ فالتنمية ليست حكراً على الخبراء فقط، وبالتالي يُمكن تصوُّر نموذج من خمسة أبعاد أساسيّة لتحقيق التنمية في مجتمعاتنا العربيّة هي:
التصدّي للتهميش: حيث إنّه لا يجوز استبعاد المواطنين من دائرة صنع القرار، وكذلك قدرته على تطوير حياته المعيشيّة؛ فالتهميش ليس اقتصاديّاً فحسب، لكونه سياسيّاً واجتماعيّاً أيضاً؛
التنمية الذاتيّة مع الانفتاح على العالَم الخارجيّ: فقد قامت التنمية في المجتمعات العربيّة على أساس استيراد نماذج التنمية من دول الشمال، ونقلها كما هي إلى دول الجنوب، في حين أنّ التنمية الحقيقيّة لا بدّ أن تكون نابعة من الدول ذاتها، ومعبِّرة عن واقعها؛
تفعيل مُشارَكة المواطن: حيث إنّ مُشارَكة المواطن في المُجتمعات العربيّة هي للأسف مُشارَكة موسميّة بدلاً من أن تكون أسلوبَ حياة، في حين تمكَّنت الدول المتقدّمة من تحقيق التنمية لأنّ لديها مجتمعاً متطوّراً. فعلى شاكلة المُجتمع تأتي الدولة، وهنا تظهر العلاقة الوثيقة بين التنمية السياسيّة والديمقراطيّة؛
بناء رأس المال الاجتماعي العابر: وذلك من خلال التقاء المواطنين حول هدفٍ واحد؛
بناء الانسجام داخل المُجتمعات العربيّة: وذلك بعد التجربة المريرة التي شهدتها بعض البلدان العربيّة مثل: العراق، وسوريا، واليمن مع التنظيمات المتطرّفة، كتدمير مقوّمات الدولة، والثقافة، ومفهوم التنوُّع.
ثانياً: الثقافة
هو مصطلح محلّي بطبعه وهذا بالضرورة يتعارض مع التوجُّه العالمي الذي يهدف إلى توجيه الثقافة المحليّة نحو العولمة، وبالتالي لا توجد ثقافة عربيّة موحّدة ولكن هناك قواسم مُشترَكة.
تتزايد الفجوة الرقميّة يوماً بعد يوم في وقتٍ يُثير فيه منتجو المعرفة الرقميّة مشكلاتٍ مستمرّة مثل: إخضاع الشبكات الرقميّة لرقابةٍ صارمة، وإثارة عقبات مثل حقوق الملكيّة الفكريّة، وفرْض أسعارٍ مُبالغ فيها على البرمجيّات، ما يحرم مَن لا يملك المال من امتلاك المعرفة العصريّة.
يتمثّل مستقبل الثقافة العربيّة في ما يُعرف بـ "المثقّف المستقلّ" عن المنظومة التقليديّة، وذلك من خلال شبكة الإنترنت التي خلقت فضاءً أوسع للنشر غير المكلف ماديّاً، كما سيشكِّل بعض المثقّفين تيّارات فكريّة جديدة، وسيظلّ البعض يعمل بصورة منفردة.
افتقدَ الوطن العربي إلى المدارس الفكريّة ومراكز الأفكار والدراسات المستقبليّة، الأمر الذي يتطلَّب التركيز على مثل هذه المراكز خلال الفترة القادمة؛ حيث إنّ سيطرة العلم، والثقافة، والرؤى الاستراتيجيّة المخطَّط لها ستدفع صنَّاع القرار في الوطن العربي مستقبلاً إلى الإيمان بقوّة المعرفة كسبيلٍ للتواجد في عالَم لا يعرف إلّا المعرفة كأداة للحياة والبقاء.
أيضاً من أبرز التحديَّات التي تواجه الثقافة في مجتمعاتنا العربيّة مشكلة صعوبة الحصول على المعلومات. ففي فترة من الفترات كان المثقّف هو فقط الشخص الذي يمتلك القدرة على تخزين كميّة كبيرة من المعلومات في ذاكرته، ويستطيع أن يربطها ليقدِّم رؤية تستند إلى المعلومات المتراصَّة في صورةٍ متتابعة.
بعد انفجار المعلومات في عصر الإنترنت، بات إنتاج المعرفة والعاملين عليها هُم الأهمّ، فالمقولة الشهيرة "المعرفة قوّة" تدلّ على إنتاج المعرفة، وليس على حيازة المعلومات، باعتبار أنّها الوسيلة الوحيدة لضمان البقاء والاستمرار، في عصر بات فيه الصراع السياسي، والاقتصادي، والعلمي، والثقافي على أشدّه، لفرض الذّات على الآخرين.
تُعدُّ صناعة الإبداع من الأُسس التي يجب أن يُبنى عليها مستقبل الثقافة في الوطن العربي، بخاصّة أنّ الوظيفة الاجتماعيّة للإبداع لا تتحقّق؛ لأنّ الأفراد يبدعون فقط حين يتوافر لهم المال، والبنية التحتيّة، والتنظيم، والأسواق، وحقوق الملكيّة، وعمليّات واسعة النطاق قادرة على استيعاب ذلك الإبداع.
ثالثاً: المواطنة
ممّا لا شكّ فيه أنّ المواطنة هي الحلّ الأمثل لمواجهة الأزمات والصراعات التي يمرّ بها العالَم العربي، والنّاتجة عن التحوّلات الديموغرافيّة التي طرأت عليه، والمتمثّلة في الزيادة السكّانيّة الهائلة بفعل ارتفاع المواليد، وانخفاض معدّلات الوفيّات.
تمرّ المجتمعات العربيّة بحالةٍ غير مسبوقة من التغيُّرات السكّانيّة المتمثّلة في زيادة حجْم الفئة الشبابيّة وما ينتج عن ذلك من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، والضغط على الأنظمة الحاكمة؛ فالمجتمعات ذات التكوُّن السكّاني الأكثر شباباً معرَّضة لظاهرة التطرُّف والإرهاب، والدول القويّة فقط هي وحدها القادرة على مُواجَهة انخراط الشباب في التنظيمات الإرهابيّة من خلال تعديل المسار، والمضيّ قدماً في دفْعِ عجلة التنمية.
تظهر أهميّة وضرورة المواطنة في وطننا العربي، وذلك بسبب ما يعيشه من حروب وصراعات داخليّة وخارجيّة تقوم على إقصاء الآخر من خلال تأجيج النعرات الطائفيّة، والجنسيّة، والعرقيّة، والطبقيّة.
يُعدّ التعليم أحد أهمّ أجهزة الدولة الأيديولوجيّة، فهو المعنيّ بشكلٍ أساس بتكوين المواطن وبناء الشخصيّة الوطنيّة، وبالتالي يجب أن ينطوي التعليم والتعلُّم على تنمية معارف، ومهارات، وتصرُّفات سلوكيّة جيّدة. فالمكوِّن المعرفي عنصر مهمّ في التربية على المواطنة، بالإضافة إلى أهميّة التطبيق على أرض الواقع من خلال المشاركة في عمليّة صنْع القرار، وذلك عبر الانخراط في نشاطات سياسيّة واجتماعيّة خارج جدران المدرسة أو الجامعة.
في ضوء ما سبق ذكره، يُمكن القول إنّ ترسيخ مفهوم الدولة الوطنيّة بات أمراً ملحّاً في المنطقة العربيّة، وذلك بسبب التهديدات التي تعرَّض لها العديد من الدول العربيّة من قِبَلِ التنظيمات المتطرِّفة، ومحاولاتها المستمرّة للإطاحة بالدولة وتنصيب نفسها بديلاً منها في ما سُمّي بـ "اختطاف الدولة".
إنّ حماية الدولة الوطنيّة لن يتمّ إلّا من خلال تعظيم قدرة الدول على حماية مواطنيها من الانخراط في تلك التنظيمات، بخاصّة أنّ أغلبيّة سكّان الدول العربيّة من فئة الشباب، الأمر الذي يتطلّب تطبيق نموذج ثلاثيّ الأبعاد قائم على ثلاثة مبادئ أساسيّة هي: المواطن أساس التنمية فهي ليست حكراً على الخبراء، والنهوض بالثقافة العربيّة بمفهومها العصري، وترسيخ ثقافة المواطنة وإتاحة فُرص المشاركة للجميع من دون تمييز.
*باحث سياسي من مصر
|