د. طه أحمد الفسيل - يُعد الفساد ظاهرة اجتماعية وجدت منذ أن وجد الإنسان على ظهر البسيطة، حيث عرفتها كافة المجتمعات البشرية في كل الأزمنة والعصور، كما أصبح الفساد في عصرنا الحاضر ظاهرة عالمية تنتشر في كافة المجتمعات المعاصرة المتقدمة منها والنامية، والغنية منها والفقيرة، وذلك رغم إجماع هذه المجتمعات على قبح الفساد ومخاطره المختلفة والمتعددة الاجتماعية منها والاقتصادية والسياسية والثقافية، والتي تتزايد بصورة خاصة في المجتمعات النامية والأقل نمواً وذات الموارد المحدودة.
ومع تزايد وعي المجتمعات وإدراكها بمخاطر الفساد على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وإعاقته لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومساهمته في تخلُّف المجتمعات وزيادة مظاهر الفقر واتساع انتشاره، وتهديد استقرار الدول والمجتمعات، أصبحت محاربة الفساد ومكافحته قضية عالمية تبنتها منظمة الأمم المتحدة لمكافحة الفساد في شهر ديسمبر 2003م والتي وافقت عليها الجمهورية اليمنية في عام 2005م، وتعتبر من بين أوائل الدول التي توافق على هذه الاتفاقية، ونظراً لأن المجتمع اليمني يُعتبر إلى حد ما حديثاً على مفهوم الفساد وأبعاده، العلمية والعملية المختلفة، فإن الأمر بحاجة ملحة إلى فهم موضوعي أوسع لظاهرة الفساد في المجتمع اليمني حتى تتضح الصورة وحتى يكون هذا المجتمع قادراً على وضع الآليات والقوانين الكفيلة بمحاصرته ومحاربته، على اعتبار ان ذلك مسئولية المجتمع ككل أفراداً وجماعات، حكاماً ومحكومين، سلطة ومعارضة.
تعريف الفساد
في هذا الإطار من الأهمية ان نتساءل عن مفهوم الفساد، إذ أن الجميع في بلادنا حكاماً ومحكومين مسئولين ومواطنين يتكلمون عن الفساد حتى أن فخامة الأخ رئيس الجمهورية علي عبدالله صالح لايترك مناسبة إلا ويتحدث عن الفساد والمفسدين، مؤكداً أكثر من مرة أنه لن يكون لا هو ولا المؤتمر الشعبي العام مظلة للفساد.
لذلك فإننا عندما نتكلم عن الفساد ومحاصرته والعمل على مكافحته فإننا بحاجة إلى أن نحدد معناه وإطاره القانوني.. وبصورة عامة يتفق معظم المتخصصين على أن الفساد هو مصطلح فني يستخدم حين يتم استغلال الوظيفة العامة والمناصب العامة لغايات ومصالح شخصية والاعتداء على المال العام، فالفساد ظاهرة تتعلق بتحويل الشأن العام ومصلحة المجتمع العامة إلى مصلحة خاصة لأفراد أو جماعة (جماعات) محددة داخل المجتمع وقد حدد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الأنشطة والأعمال التي تندرج تحت تعريف الفساد بأنه »إساءة استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص، فالفساد يحدث عادةً عندما يقوم موظف عام بقبول أو طلب أو ابتزاز رشوة لتسهيل عقد لمناقصة عامة، كما يتم الفساد عندما يقوم وكلاء أو وسطاء لشركات أو أعمال خاصة بتقديم رشاوى للاستفادة من سياسات أو إجراءات عامة بغرض التغلب على المنافسين في المناقصات والتوريدات العامة أو بغرض تحقيق أرباح خاصة خارج إطار القوانين السارية«، ويتمثل الوجه الثاني للفساد عن طريق »استغلال الوظيفة العامة لتحقيق مصالح ومنافع من خلال استغلال شخصية مثل تعيين الأقارب أو إساءة استغلال أموال الدولة مباشرة بأشكال مختلفة وبدون وجه حق«.
وبالنسبة لمعاهدة الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، فإنها لم تتضمن تعريفاً شاملاً جامعاً للفساد، لكنها وضعت توصيفاً خاصاً للأعمال والأنشطة التي تعتبر سلوكاً فاسداً في الوقت الحاضر، حيث تركت للدول الأعضاء الموقعة على المعاهدة إمكانية معالجة الأشكال المختلفة من الفساد التي قد تظهر مستقبلاً، في الوقت نفسه فإن مفهوم الفساد في هذه المعاهدة يتسم بالمرونة بما يجعله قابلاً للتكيف مع طبيعة كل مجتمع وتطوره السياسي والاجتماعي وطبيعة ظاهرة الفساد فيه ومدى انتشاره، وأعتقد أن ذلك هو الأسلم إذ تتفاوت المجتمعات المختلفة في جوانب كثيرة ولايمكن أن نجد مفهوماً نمطياً للفساد في كافة المجتمعات.
اليمن.. ومكافحة الفساد
وفي الجمهورية اليمنية فإن الإطار التشريعي والقضائي ذات العلاقة بقضايا المال العام ومكافحة الفساد وكذلك الإجراءات التشريعية الإجرائية والتنظيمية التي تنظم أعمال محاكم الأموال العامة تتوزع فيما يزيد على عشرين قانوناً رئيسياً من أهمها قانون الجرائم والعقوبات وهو المصدر التشريعي الأول لمكافحة القضايا المتصلة بالفساد وحماية الأموال العامة، القانون المدني، قانون الخدمة المدنية، القانون المالي، قانون المناقصات والمزايدات الحكومية، قانون أراضي وعقارات الدولة، قانون الجمارك، قانون البنوك، الأمر الذي يؤدي من ناحية إلى تطويل إجراءات التقاضي في قضايا الأموال العامة نتيجة تداخل اختصاص محاكم الأموال العامة مع اختصاص محاكم أخرى مثل محاكم الجمارك والضرائب، ومن ناحية أخرى تداخل الإجراءات المتعلقة بقضايا المال أمام عدة جهات. إلى جانب ذلك يعتبر الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة إحدى الجهات الرسمية المهمة التي تساهم بدور رئىسي في حماية المال العام ومكافحة مظاهر الفساد المالي والإداري والحد منها، وذلك وفقاً للصلاحيات والاختصاصات المحددة للجهاز في القانون رقم 39 لسنة 1991م ولائحته التنفيذية، وخاصة المادة (11) من قانون الجهاز والمادتين 18-22 وكذلك المادتين 25-27 من اللائحة التنفيذية، ورغم الجهود التي يبذلها الجهاز إلا أنه يعاني من صعوبات ومعوقات عدة من أبرزها ضعف أنظمة الرقابة الداخلية في الجهات الخاضعة لرقابة الجهاز، والقصور في آليات العمل الخاصة بالكشف عن ممارسات الفساد ومنها النزاهة والشفافية والعلنية والمساءلة، وكذلك عدم التعاطي الجدي مع مخرجات الجهاز وتقاريره.
صور الفساد
إن الفساد موجود أيضاً في القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني..
فالفساد في معناه العام هو سلوك بشري يخالف القوانين السارية والأنظمة العامة، سواءً أكان هذا السلوك فردياً أو جماعة معينة (حزبية كانت أو سياسية، أو اقتصادية) أو كان هذا السلوك قد اتبعه موظفون حكوميون أو تجار ورجال أعمال من القطاع الخاص، أو من قبل عاملين في منظمات وجمعيات أهلية أو فرد من أفراد المجتمع، ولذلك لابد أن نعي قضية مهمة وهي ان الفساد لايوجد فقط في أجهزة ومؤسسات الدولة، وإنما هو موجود أيضاً في القطاع الخاص وفي منظمات المجتمع المدني بصورة أو بأخرى فالفساد بصورة عامة لابد وأن يكون له طرفان فاسد ومفسد.. ويشير تقرير منظمة الشفافية العالمية لعام 2004م- حول الفساد في العالم- إلى ان القطاع الخاص يُعد مصدر التمويل لكثير من الفساد السياسي والإداري في العالم، وأنه تقع على عاتق هذا القطاع مسئولية كبيرة في الحد من هذه المشكلة.. وفي الوقت نفسه هناك أشكال ومظاهر عدة للفساد، هناك الفساد السياسي، وهناك الفساد الإداري والمالي للحكومة، وهناك الفساد الاقتصادي، والفساد الاجتماعي والأخلاقي.
ومن ثم فإن الموضوعية تقتضي منا الإقرار بأن ظاهرة الفساد وانتشارها لاتعتبر مسئولية الحكومة فقط وإنما هي مسئولية جميع أطراف المجتمع اليمني، أفراداً وجماعات، قطاعاً خاصاً وجمعيات أهلية ومنظمات المجتمع المدني، فالفساد هو في المحصلة النهائية نتيجة لاتفاق غير قانوني بين طرفين فاسد ومفسد وأن هذا الاتفاق إما أن يكون طوعياً يتم برغبة تامة بين الفاسد والمفسد للحصول على حق أو (حقوق) ومصالح خاصة غير قانونية، وقد يكون الاتفاق اتفاقاً غير طوعي (إجباري)، وذلك عندما يقوم الطرف الفاسد بابتزاز طرف آخر هو فرد من أفراد المجتمع أو جماعة من جماعاته المختلفة تحتاج إلى خدمة عامة.
ففي بعض الأحيان يستغل الموظف العام (كبيراً أو صغيراً) منصبه ووظيفته العامة لعرقلة حصول الفرد أو الجماعة على الخدمة التي يطلبها أو الحق الذي يسعى للحصول عليه بشكل سهل وطبيعي وفي إطار الأنظمة والقوانين، بغرض الحصول على مقابل مادي (مال) أو معنوي (وساطة) غير قانوني.
أسباب وعوامل الفساد
تتعدد الأسباب والعوامل الكامنة وراء ظاهرة الفساد في المجتمع اليمني، وتتداخل مع بعضها البعض، فهناك أسباب اقتصادية وسياسية، وأسباب اجتماعية وثقافية، وأسباب داخلية وأسباب خارجية، وإلى جانب وجود عوامل وأسباب عامة لوجود الفساد في المجتمع اليمني، مثلها مثل أي مجتمع، فإن هناك أسباباً وعوامل ذات خصوصية نسبية باليمن، يمكن إجمالها فيما يلي:
1- إن المجتمع اليمني مازال مجتمعاً تقليدياً تسود فيه وتغلب عليه القيم التقليدية والروابط القوية المستندة إلى علاقات النسب والقرابة والعلاقات المناطقية.
2- المرحلة الانتقالية والتحولات العميقة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها بلادنا، خاصة بعد قيام الوحدة المباركة في مايو 1990م، فلاشك أن فرص ممارسات الفساد واتساع وتنوع مظاهره تزداد بصورة كبيرة في المراحل الانتقالية وفترات التحولات العميقة، وقد ساعد على ذلك في اليمن حداثة البناء المؤسسي والإطار القانوني للدولة اليمنية الحديثة وعدم اكتماله، إذ أن هذا الوضع قد وفر بدون شك بيئة مناسبة للفاسدين والمفسدين، مستغلين ضعف أجهزة الرقابة وضعف مستوى خبراتها من أجل تحقيق المصالح الذاتية والشخصية.
3- غلبة علاقات القُربى والنسب، والمناطقية والعشائرية على ما عداها من القيم والواجبات والالتزامات الوطنية في تفشّي ثقافة الفساد بين أفراد المجتمع اليمني، بحيث أصبحت ممارسات الفساد أمراً عادياً بل ومقبولاً ومتقبلاً من قبل المجتمع اليمني، ولذلك فإنه نظراً لشمولية واتساع نطاق الفساد وقبول الناس له أصبحت القوانين والأنظمة السارية عاجزة عن التصدي للفساد.
4- قوة ترابط وتكاتف الفاسدين والمفسدين ودقة تنظيمهم واتساع نطاقهم لأن المصالح تجعلهم أكثر قوة وسطوة بصورة أو بأخرى، بينما تتسم علاقة الترابط والاتصال بين المصلحين بالوهن والضعف نتيجة تفرق هذه الجهود وتشتتها وعدم تنظيمها.
5- قلة عدد الكوادر الكفؤة والمؤهلة في كافة المجالات المختلفة مثل الهندسة والمحاسبة أو ضعف وتدني مستواهم وكفاءتهم، صحيح لدينا كم هائل من المهندسين والمحاسبين خريجي الجامعات لكن المؤهل منهم والكفؤ عدده قليل.
6- انتشار مظاهر الجهل ونقص المعرفة بالحقوق والواجبات، وبطبيعة الإجراءات وخطوات الحصول على الخدمات العامة وتكلفتها، خاصة في ظل قصور آليات الوصول إلى المعلومات أو غيابها فعدم وجود إجراءات مكتوبة وقواعد عمل منشورة ومعلنة للجمهور في قطاعات الخدمات العامة يساعد بشكل كبير على فتح مجالات وفرص ممارسات الفساد.
7- ضعف أو غياب دور مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الخاصة في الرقابة ومتابعة الأداء الحكومي، وإذا وجدت فإنها قد تفتقد للموضوعية أو الحيادية ويشمل ذلك أجهزة ووسائل الإعلام المختلفة وبالذات الصحف الحزبية.
8- حداثة مفهوم الفساد وأبعاده العملية والعلمية المختلفة في المجتمع اليمني، الأمر الذي أدى إلى غياب الرؤى الموضوعية والأساليب العلمية لتشخيص الفساد وتحديد مظاهره واختلالاته المختلفة وبالتالي تحديد الآليات والإجراءات المناسبة الكفيلة بمحاصرته ومحاربته.
9- وجود عوامل وأسباب خارجية تساعد على نشر الفساد وتعميقه، يمكن إجمالها في وجود مصالح وعلاقات تجارية مع شركات ومنتجين من دول أخرى، حيث تسعى هذه الشركات إلى الحصول على امتيازات واحتكارات داخل الدولة، مستخدمةً في ذلك وسائل الترغيب والترهيب مفسدةً بذلك جزءاً لايستهان به من موظفي الدولة، ويبرز في هذا المجال الدور الذي تؤديه والسلوكيات والممارسات التي تسلكها بعض الشركات الأجنبية الكبيرة ومتعددة الجنسيات، وكذلك بعض المنظمات والمؤسسات الدولية والحكومية منها وغير الحكومية، حيث تشكل هذه السلوكيات والممارسات صوراً للفساد الخارجي مثل اللجوء إلى الحكومات والمسئولين من أجل فتح المجال لأنشطتها وأعمالها ومنتجاتها أو من أجل الحصول على عقود امتياز لاستغلال الموارد الطبيعية أو إقامة البنى التحتية، وفي سبيل ذلك تستخدم أساليب الترغيب والترهيب من أجل تحقيق أهدافها والحصول على الامتيازات التي ترغب فيها وتكون هذه الشركات والمنظمات أكثر قوة في ضغطها وتأثيرها وسلوكها المفسد على الدول التي تمر بمراحل انتقالية وفترات التحول العميق مثلما هو الحال في بلادنا اليمن.
معيق لعملية التنمية
ولذلك فإنه ومع تزايد وعي المجتمعات وإدراكها بمخاطر الفساد على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وإعاقته لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومساهمته في تخلف المجتمعات وزيادة مظاهر الفقر واتساع انتشاره، وتهديد استقرار الدول والمجتمعات، لجأت العديد من الدول المتقدمة والكتل الاقتصادية الدولية والإقليمية إلى إبرام اتفاقيات الأمم المتحدة لمكافحة الفساد الصادرة في عام 2003م والتي وافقت عليها بلادنا في عام 2005م، بحيث أصبحت محاربة الفساد ومكافحته قضية عالمية، وعلى المستوى الإقليمي ظهرت العديد من المعاهدات والاتفاقيات الإقليمية الخاصة بمكافحة الفساد والحد منه، من بينها:
- معاهدة الاتحاد الأفريقي الإقليمية لمكافحة الفساد والتي تم تبنّيها في يوليو 2003م.
- بروتوكول جماعة التنمية الأفريقية الجنوبية لمكافحة الفساد.
- معاهدة منظمة الدول الأمريكية لمكافحة الفساد.
- معاهدة القانون المدني والجنائي لمجلس أوروبا حول الفساد.
- معاهدة منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCED) لمكافحة رشوة المسئولين العموميين الأجانب، والتي دخلت حيز التنفيذ منذ فبراير 1999م.
إلى جانب ذلك أصبحت الدول والمنظمات والمؤسسات الاقليمية والدولية المانحة للمساعدات والقروض الميسرة والتسهيلات الائتمانية تربط مساعداتها ومنحها إلى الدول المتلقية بمدى التزامها بمعايير الحكم الجيد والتي يتم قياسها بمدى وجود كل من المحاسبة والمساءلة، والوضوح والشفافية، وحرية تبادل المعلومات وسهولة الحصول عليها، والاستقرار السياسي، وكفاءة وفاعلية الأداء الحكومي، وارتفاع مستوى جودة البنى والمؤسسات التنظيمية والمؤسسية، وسيادة القانون، ووجود تشريعات وتنظيمات مؤسسية مستقلة لضبط الفساد ومكافحته والحد منه.
كما ظهرت منظمة الشفافية العالمية في عام 1993م باعتبارها الإطار المؤسسي لحركة مجتمعية عالمية لمكافحة الفساد بحيث أصبحت في الوقت الحاضر تعمل كمستشار فني ذي خبرة عالمية متطوع لمكافحة الفساد على المستوى العالمي، وتمكنت من إنشاء منظمات وطنية في العديد من دول العالم.
* خبير اقتصادي
|