د. كمال البعداني - كان النعمان بن المنذر هو آخر ملوك مملكة الحيرة في ارض العراق ، والتي كانت تخضع للفُرس ، مثلما كانت مملكة الغساسنة في الشام تخضع للروم ، كان للنعمان بنت اسمها (هند) وكانت أحسن نساء زمانها خَلْقاً وخُلقاً ، وادباً ولطفاً وفصاحة ، وقد وصل خبرها الى (كسرى الفُرس) فطلب من الملك النعمان ان يزوجه إياها ، والواقع ان النعمان حتى ولو كان ملكاً فهو منصّب في مملكته من قبل كسرى الفرس وتحت حمايته ولا يستطيع ان يعصي له امراً ، لكن النعمان أنف ان يزوج بنته من أعجمي كما هي عادة العرب ، حتى ولو كان كسرى الفُرس ملك ثاني قوة في العالم بعد الروم في ذلك الوقت ، فأخذ يماطل ويسوق الاعذار لكسرى ، بينما كان هناك من العرب في البلاط الكسروي من يحملون الحقد على المنذر لأسباب مختلفة ، فأخذوا يوغرون صدر كسرى ، الذي اشتد غضبه واخذ في طلب الملك النعمان للحضور ومعه ابنته (هند) تحت التهديد والوعيد ، ولما أيقن النعمان ان لا مناص من الذهاب الى عاصمة (الفُرس)، لجأ الى هانئ بن مسعود الشيباني زعيم قبيلة بني شيبان ، فاستودعه أهله وفي مقدمتهم ابنته (هند) كما استودعه ماله وسلاحه ، ثم توجه الى كسرى الذي فوجئ بقدوم النعمان من دون (هند) فأمر بسجنه وتعذيبه حتى لفظ انفاسه تحت أقدام الفيلة ، ثم ارسل إلى هانئ الشيباني يطلب منه تسليم وديعة النعمان ، ولكن الشيباني رفض ذلك ، فعرض عليه كسرى تسليم (هند) مقابل ان تكون بقية الوديعة من مال وسلاح من نصيبه فلم يستجب لذلك ، وأدرك هانئ الشيباني ان كسرى لن يتركه ، فأخذ يتجول بين قبائل العرب يشرح لهم الامر ويطلب منهم النُصرة للدفاع عن العرض والشرف العربي ، فاستجابت له قبائل بني بكر بن وائل والعديد من القبائل العربية من جنوب العراق وشمال الجزيرة العربية ، وتواعدوا الى مكان معلوم لتدارس الموقف ، وكان اللقاء في المكان المحدد ، فلم يقل احدهم يا معشر العرب لاطاقة لنا بالفُرس ! ولم يقل ثانٍ ليس هناك أي تكافؤ بالقوة فالفُرس امبراطورية عظيمة ولديها ثاني اقوى جيش في العالم ، ولم يقل آخر : يا قومنا لا داعي لأي بطولات فالانسب لنا تسليم (هند) بنت النعمان وكل ما يطلبه كسرى حتى نحافظ على نسائنا وبناتنا من السبي وديارنا من الخراب فالنصر حليف الفُرس لا محالة ، لم يقل أحد منهم ذلك ، بل قالوا بصوت واحد : ان هند ليست بنت النعمان وحسب بل بنت العرب جميعاً فمن يطمع بهند اليوم سيطمع بغيرها من بنات العرب في الغد ، فاتخذوا قرار المواجهة وليكن ما يكون ، كسرى الفُرس بدوره طار صوابه ولسان حاله يقول : كيف لهؤلاء الاعراب الاجلاف بدو الصحراء ان يقفوا في وجهي ويقرروا مواجهتي ، وأنا من هزمت الروم اكثر من مرة ؟ فقرر استئصال بني شيبان ليكونوا عبرة لغيرهم ، فجهز لهم جيشاً ضخماً لم تعرفه العرب من قبل ويقوده أكفأ قادة الفرس ومعهم من قبائل العرب الموالية ، وقبل توجه الجيش كان كسرى قد ارسل رسله لتطوف بين قبائل العرب ، لتحذرهم من مساندة (بني شيبان) وان من تفعل ذلك من قبائل العرب سيكون عقابها شديداً..
وتواجه الطرفان عند بطحاء ذي قار ، وهو المكان الذي اختاره العرب ، وهناك دارت معركة ضارية لم تعرف العرب مثيلاً لها من قبل.. كان العقل والمنطق يقولان ان الفُرس سيدفنون العرب تحت بطحاء ذي قار ، فهم جيش نظامي واكثر منهم عدداً وعدة ، لكن الفُرس فُوجئوا بعرب يقاتلون قتالاً لم يعهدوه عليهم من قبل ، حتى العرب الذين خرجوا للقتال مع الفرس تحركت فيهم النخوة العربية والدم العربي فتواصلوا سراً قبل المعركة مع اخوانهم العرب ، واتفقوا على ان يمثلوا دور المنهزم اثناء القتال فينسحبوا من المعركة حتى يفت ذلك في عضد جيش الفرس وهو ما كان ، انتهت المعركة بهزيمة مدوية للفُرس ونصر ساحق للعرب ، نصرُ ترك دوياً هائلاً في انحاء الجزيرة العربية وخارجها ، حمل اخباره الركبان ، ونقله معه الزمان ، انتصر الحق امام العقل والمنطق ، انتصر الايمان بالقضية امام البطش والجبروت ، حتى قال الشاعر الأعشى والملقب بصناجة العرب واصفاً المعركة..
لَمّا اِلتَقَينا كَشَفنا عَن جَماجِمِنا
لِيَعلَموا أَنَّنا بَكرٌ فَيَنصَرِفوا
قالوا البَقِيَّةَ وَالهِندِيُّ يَحصُدُهُم
وَلا بَقِيَّةَ إِلّا النارُ فَاِنكَشَفوا
كانت معركة ذي قار في الجاهلية ، والذي حركهم ودفعهم للقتال هي الحمية والنخوة العربية ، والغيرة على العرض.. انتهت معركة ذي قار ولكن اخبار ابطالها واسمائهم لم تُنسى، فقد احتفظ بهم التاريخ ليتداولها العرب جيلاً بعد جيل، كانت هذه هي اخبار عرب الأمس عرب (هند بنت النعمان) فماذا عن اخبار عرب اليوم ، عرب غزة ؟ لقد خذلوا نساء وبنات واطفال غزة وتركوهم للموت ، بعد ان قرر بايدن استئصالهم كما قرر كسرى بالامس استئصال بني شيبان ، استغاثوا بهم فلم يغيثوهم ، استنصروهم فلم يستجيبوا لهم ، بل ان البعض منهم أخذ يلومهم على انهم دافعوا عن ارضهم وعرضهم ، وكما ارسل كسرى بالامس رسله الى قبائل العرب ليحذرهم من مساندة قبائل بني شيبان ، هاهو (بايدن) اليوم يرسل رُسله الى الحكام العرب ليحذرهم من مساندة اهل غزة ! لكن عرب الامس كانوا أهل نخوة ونجدة وفروسية !! ، آه لو يجود لنا الزمان بحكام يحملون نخوة ونجدة وفروسية عرب هند بنت النعمان..
|