إبراهيم ناصر الجرفي - من يبحث في كتب التاريخ سوف يلاحظ على الفور أن أغلب الحروب والصراعات التي دارت وتدور وستدور بين المجتمعات البشرية قديماً وحاضراً ومستقبلاً، لها جذور ودوافع وأسباب دينية، وسيلاحظ أن وتيرة تلك الحروب كانت ولا تزال وستظل تتزايد وتتعاظم إذا كانت السلطات الحاكمة تعتنق أفكار دينية متشددة ومتطرفة، لأنها تجعل المسئولين فيها يعتقدون أنهم وكلاء الله في أرضه، ما يبرر لهم الاعتداء على الآخرين، وسفك دمائهم، ونهب ممتلكاتهم، واستعمار أرضهم، ومصادرة حقوقهم وحرياتهم الإنسانية، ولن نبالغ إذا قلنا بأن أسوأ الفترات التاريخية على الإطلاق وأكثرها عنفاً ودموية في حياة المجتمعات والشعوب البشرية، هي تلك الفترات التي هيمنت وتهيمن فيها الجماعات التي تعتنق أفكار دينية متشددة ومتطرفة على السلطة، لأنها تنظر إلى الحياة على أنها عبارة عن معركة متواصلة بينها وبين من يخالفها في الدين والمعتقد والفكر، وترى في نفسها الحق وما دونها الباطل، ولا تتوقف عن إثارة الأحقاد والكراهية في نفوس أتباعها ضد الآخرين..!!
وبذلك يمكننا القول بأن الكثير من المآسي والكوارث التي عاشتها المجتمعات البشرية، هي نتاج إعتناق السلطات الحاكمة لأفكار واجتهادات بشرية دينية متشددة ومتطرفة، استغلت التشريعات السماوية استغلالاً سلبياً وسياسياً وسلطوياً، بعد أن قامت بتأويلها وتفسيرها بما يتوافق مع مصالحها وغاياتها وأهدافها السياسية والسلطوية، وبعد أن تمكنت من تصوير الحروب التي تخوضها في عقول أتباعها على أنها حروب مقدسة، ما جعلهم يخوضون تلك الحروب وهم لا يهابون الموت، ويخلصون في قتل الآخرين. وسفك دمائهم، ويمارسون ضدهم أبشع الجرائم والانتهاكات وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً، لتجد البشرية نفسها في دوامة من العنف والصراعات المتواصلة والمتجددة والمستمرة والمستعرة، فما أن تنتهي من دوامة صراع حتى تدخل دوامة جديدة من العنف والعنف المضاد، وهو ما أفقد الحياة البشرية جمالها وإنسانيتها وسعادتها وحضارتها، وجعلها تغرق في مستنقع السلبية والأحزان والآلام والكراهية والعداوة والانتقام والتشدد والتطرف..!!
ولا يتوقف الأمر عند ذلك الحد بل إن السلطات الدينية المتطرفة والمتشددة، لا تتوقف عن ممارسة كل صور الاستبداد والقمع ضد المواطنين القابعين تحت سلطتها، فهي تجعل من نفسها وصية عليهم ومن حقها محاسبتهم ومعاقبتهم والتدخل في حياتهم وحرياتهم الشخصية، ليجد المواطنون الذين يعيشون تحت حكم السلطات الدينية المتشددة أنفسهم مسلوبي الحرية والإرادة والقرار، فالأمر أمرها والرأي رأيها، ولسان حال قياداتها يقول لا أريكم إلا ما أرى، والفكر السياسي لهذه السلطات باختلاف دياناتها ومذاهبها وطوائفها يرى في الحقوق والحريات الإنسانية الشر المستطير، لذلك لا تتوقف عن ممارسة كل السياسات والأساليب القمعية والاستبدادية التي تمنع الناس من مجرد التفكير في حقوقهم وحرياتهم، وبذلك فإن سيطرة السلطات الدينية المتشددة على الحكم في أي زمان ومكان، له نتائج سلبية وكارثية على كل المستويات الداخلية والخارجية، ففي الداخل يسود الاستبداد والقمع وتصادر الحقوق والحريات، وفي الخارج تزداد وتتعاظم وتيرة الحروب والصراعات الدينية بين المجتمعات البشرية، وبذلك لن نبالغ إذا قلنا بأن أتعس الشعوب وأشقاها هي تلك الشعوب التي تحكمها وتسيطر عليها وتحكمها السلطات الدينية المتطرفة والمتشددة..
لأن تلك السلطات تمارس الاستبداد والظلم والقمع ضد المواطنين باسم الدين، وتصادر حقوقهم وحرياتهم من باب الحرص على الدين، وتفرض عليهم المزيد من الجبايات والإتاوات باسم الدين، وفي نفس الوقت تعلن الحروب ضد الآخرين من باب الدفاع عن الدين، أو الدعوة إلى الدين، أو قتال المخالفين لها في الدين، ولن نبالغ إذا قلنا بأن أقسى المراحل التاريخية في حياة المجتمعات البشرية هي تلك المراحل التي يتوسع فيها نفوذ السلطات الدينية المتطرفة والمتشددة وتزداد قوتها، لأنها تحول العالم إلى ساحة حرب مفتوحة، ولا تتردد في شن الحروب العدوانية والتوسعية على المجتمعات البشرية التي تعتنق أفكاراً دينية مخالفة لفكرها الديني، ولا تتوقف عن فرض ثقافتها على الآخرين بالقوة والإكراه، ولا تتردد في خوض الحروب دون اعتبار لنتائجها الكارثية على مجتمعاتها وعلى البشرية، والعالم كان وسيكون أفضل عندما تكون السلطات الحاكمة لا تعتنق الأفكار الدينية المتشددة والمتطرفة، لأن هذه السلطات سوف تعمل على احترام قوميات وثقافات ومعتقدات الآخرين، وسوف تسعى إلى إقامة علاقات إيجابية مع بقية الدول، وتحافظ على حدودها القومية ولا تعتدي على حدود القوميات الأخرى، ولا تسعى إلى فرض ثقافاتها وأفكارها على الآخرين بالقوة والإكراه، وتحترم التعدد والتنوع الديني والمذهبي والثقافي، وبذلك سيكون العالم أكثر أمناً واستقراراً في ظل وجود هكذا سلطات غير متطرفة وغير متشددة..
|