عبدالكريم الحرازي - يرى البردوني في كتاب "اليمن الجمهوري" أن أرومات ثورة الـ 26 من سبتمبر تشكلت مع بدايات القرن العشرين حين كان اليمنيون يكافحون الوجود التركي بمفهوم وطني خالص، وهذا لم يكن له صلة بترهل الدولة العثمانية مع بدايات القرن العشرين ومناداة بعض العرب بأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، إذ أن اليمن عرفت بمقبرة الأناضول، ولم تستطع الدولة العثمانية من بسط نفوذ سيطرتها على اليمن بشكل مطلق.
وقبلها تكسرت هجمات البرتغاليين على السواحل الجنوبية وباءت بفشل ذريع، ومن هنا عرفت اليمن بمقبرة الغزاة، تحقق الهدف وولد اليمن المستقل الحديث في العام 1918 وتولت الأمر في الحكم مملكة فتية لكنها كانت ذات إرث عريق يمتد لعشرة قرون مزجت بين المذهب والسياسة من خلال تمازج إمامة المسلمين في المذهب الزيدي من قبل إمام علوي فاطمي يطلب الولاية له، وبين مملكة قُطرية وراثية مطلقة، من هنا نستدل على أن ثورة اليمن الجمهوري في 1962م لم تكن وليدة اللحظة.
على ذلك الحس الوطني تجمعت ينابيع الثورية ضد هذه المملكة التي أنشأت ما يشبه نظام الفصل العنصري والتي سبب (مأساة) كما وصفها البردوني نفسه وكذلك اثنان من رموز هذه الثورة هما محمد محمود الزبيري وعبدالرحمن البيضاني، إذ استغل النظام الجديد في المملكة الوليدة المذهب الزيدي الذي كان يتبعه الأغلبية سياسياً باحتكار السلطة على أقلية ذات حق مقدس في الحكم كما تراه، إضافة إلى تبعات هذا الاستغلال من مزايا تُهب لهذه الأقلية دوناً عن باقي شرائح المجتمع.
كان انبلاج اليمن الجمهوري أمراً حتمياً كما رأى ذلك البردوني، والوعي هذا كان قد اشرأب لدى أئمة المملكة المتوكلية اليمنية، وكانوا يحاولون إجهاض ولادته أو أقلها تأخيره..
هناك تحركت دوافع الوطنية من جديد ولكن بحدود أضيق، وذلك من خلال حركات تمرد ومعارضة سردها الكاتب ضمن فلسفية تحليلية لم تخلو من دور الأدب (مؤلف الكتاب في الواقع شاعر) في تحريك المياه الآسنة التي لم تكن تلبث أن تأسن في مكان لتتحرك في مكان آخر حتى في معقل الزيدية نفسه (حاشد وذمار) واستمرت تلك الحركات بشقيها الفكري والعملي الثوري من ثلاثينات القرن العشرين إلى بداية الستينات.
من هنا نستنتج أن اليمن الجمهوري كان منذ بداية إرهاصاته ذي طابع وطني خالص بعيد عن أي أفق ضيق، وهذا ما يرصع صفحاته، فمناهضة الحكم التركي (السني) الذي كان يُرى له على أنه احتلال مجرد خارجي وعليه يجب مقاومته وطرده ليحكم أهل البلاد بلادهم، يماثله مناهضة الإمامة (الزيدية) رغم طول تاريخها الذي كانت تحاول إعادة إحيائه مستغلاً كما ذكرنا المذهب الزيدي، مما يدل على أن اليمن بالطبع وخصوصاً مع بداية الخمسينات كان متأثراً بمحيطه وبالجو العام السائد وكان متطلعا إلى الحداثة (الإمامة كانت ذات إرث تاريخي رجعي يمتد لــ 1100 عام) وإلى مفاهيم مثل القومية والتحرر من الاستعمار الذي كان يبسط نفوذه في الشطر الجنوبي.
الشطر الجنوبي من الوطن لم يكن بأحسن حالا من الشطر الشمالي، إلا أن ثورة الــ 26 من سبتمبر ألهمت أبناء الشطر الجنوبي من نهج نفس المسار من منطلق وأحدية الهوية والمصير، فانطلقت بعد سنة من ثورة سبتمبر من جبال ردفان أول شرارات الثورة ضد المحتل البريطاني، وتحقق الاستقلال للشطر الجنوبي في العام 1967م، والذي أعاد تحقيق وحدته لاحقاً مع الشطر الشمالي في العام 1990م بعد فترة وجيزة من ولادة الجمهوريتين في عمر الدول.
بالطبع لم يولد اليمن الجمهوري إلا بتوحد أمرين مهمين، هما التحرك الشعبوي والوعي النخبوي، ذلك أن اليمن كان يعاني مع جلاء الاحتلال التركي وبداية الحكم المتوكلي من نظام تجهيل ممنهج، لكن ذلك لم يمنع بعض الفئات من تجذر الفكر الثوري الوطني فيها شيئاً فشيئاً خاصة مع انفتاحها على العالم الآخر المحيط ووصول كتب ليدها من عينة طبائع الاستبداد لعبدالرحمن الكواكبي، وفي سبيل البعث لميشيل عفلق والعبرات لمصطفى المنفلوطي ووحي القلم لمصطفى الرافعي والعروة الوثقى لمحمد عبده.
وكذلك وثَّق البردوني دور الجماهير الأساسي في ولادة اليمن الجمهوري من خلال حركات ثورية أو انتفاضية كان لها دور في ترسيخ المفهوم الوطني وكسر حاجز الرهبة منها حركة المقاطرة وحركة حاشد وحركة ذمار ودور الجنود في انقلاب الثلايا 1955م وحركة الزرانيق وحركة صعفان وغيرها..
إذن كان انبلاج اليمن الجمهوري أمراً حتمياً كما رأى ذلك البردوني، والوعي هذا كان قد اشرأب لدى أئمة المملكة المتوكلية اليمنية، وكانوا يحاولون إجهاض ولادته أو أقلها تأخيرها، وتجلى ذلك بوضوح من خلال ممارسات سلطة المملكة المتوكلية كالقيام ببعض الوسائل منها تعيين رموز قبلية لا تنتمي للأسر الهاشمية بمناصب عليا في الدولة، والسماح بطباعة كتب سُنية كانت من قبل في مصاف المؤلفات المحظور تداولها ككتب ابن الأمير الصنعاني ومحمد الشوكاني وصالح المقبلي، وكذلك الانضمام الفيدرالي للجمهورية العربية بين مصر وسوريا وغيرها من الأمور.
لكن اليمن الجمهوري أبصر النور في الأخير، والبردوني بعد عشرين عاماً من ولادته كان يبحث ويتساءل عمَّاذا حقق اليمن الجمهوري..؟
|