|
|
|
أ.د. عبدالعزيز صالح بن حبتور - تعرَّض الأصدقاء الروس لصدمة هائلة، أمنياً ونفسياً، من جراء العدوان الإرهابي في ضاحية العاصمة الروسية موسكو، وتحديداً في كرو كوس سيتي هول/ موسكو، مساء يوم الجمعة، يوم 22 مارس 2024، في قاعة كروكوس سيتي الموسيقية في مدينة كراسنو غورسك، وهي مدينة روسية تقع على الطرف الغربي للعاصمة موسكو.
ذهب المواطنون الآمنون الراغبون في مشاهدة إحدى الحفلات الموسيقية في مسرح كرو كوس، وفي أثناء توافد المواطنين الروس، وربما من ضيوف روسيا من السياح الأجانب، توافد الجمع لأخذ مقاعدهم المحددة سلفاً في القاعة المخصصة لبدء العرض الفني، وإذا بعصابة إرهابية مكونة من أربعة مجرمين، وربما أزيد من ذلك العدد، انهال أفرادها على المواطنين الآمنين بسيل من نيران رشاشاتهم ومسدساتهم والقنابل اليدوية الحارقة، ومواد حارقة إضافية، بهدف إشعال النيران في الموقع.
وبدأت العصابة الإجرامية تنهال عليهم بقصف ناري بلا رحمة ولا تمييز بين طفل وشاب وامرأة، الأمر الذي أدى إلى 143 شهيداً بينهم ثلاثة أطفال، وجرح ما يزيد على 152 شخصاً، بينهم أطفال حضروا مع أمهاتهم للمشاركة في التمتع بالعرض الفني الموسيقي المخصص للاستعراض في الاحتفال.
تقول المعلومات الأمنية الاستخبارية الروسية إن الفاعلين هم من العصابة الإجرامية للدولة الإسلامية المستأجرة للغير ("داعش")، وما زالت التحقيقات جارية على قدم وساق.
وفي أثناء بدء الهجوم الإرهابي تقول التقارير الإخبارية إن استخبارات الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا العجوز أشارت إلى مواطنيهما في موسكو وسائر المدن الروسية، ونصحتهم بأن يتجنبوا الأسواق الكبيرة والملاهي والساحات العامة، تجنباً لأي هجوم إرهابي قد يقع في الأيام والأسابيع المقبلة لذلك التحذير.
وكذلك في أثناء وقوع الحادث الإجرامي، صرح عدد من الدوائر الإعلامية الأميركية بأن الهجوم نُفِّذ من جانب مقاتلي "داعش"، وأن لا علاقة للقيادة الأوكرانية بذلك الهجوم الإرهابي، وهذا أمر مستغرب وخبر محيِّر أن يصدر التصريح من أعلى القيادات من المسؤولين الأميركيين والبريطانيين، في أثناء اشتعال الحرائق وانتشار (القتلى)، بين أروقة موقع الجريمة.
السؤال الأكثر إلحاحاً هنا: كيف تجرؤ وتتسرع الاستخبارات الأميركية في أن تبرّئ ساحة القيادة الأوكرانية من هذه الواقعة؟
مع العلم بأن العصابة الإجرامية، بعد أن نفذت جريمتها، اتجهت هاربة إلى الحدود الأوكرانية، وتحديداً ثلاثة من المتهمين، الذين تم القبض عليهم عند مداخل حدود أوكرانيا.
إن أبسط المحللين العسكريين والأمنيين والمراقبين الإعلاميين يعرفون تفاصيل الحرب الشعواء التي شنتها جحافل حلف شمال الأطلسي، بكل ثقله، على الاتحاد الروسي، وهيأت ذاتها بقوة للحرب على الجيش والشعب الروسيين، وتموّن مسرحها جمهورية أوكرانيا.
ونظم حلف شمال الأطلسي ذاته بقوة كي يوسع جغرافيته وتضاريسه وعضويته للحلف لتصل إلى مقاطعات الدونباس وخيرسون والقرم الروسية، كي يقترب من مركز القرار، استراتيجياً وسياسياً، من العاصمة موسكو، ليهدد الكيان التاريخي لروسيا ومصالحه الاستراتيجية، ووجد ضالته في الحركات السياسية النازية العنصرية الأوكرانية في العاصمة كييف، وانطلق من دون عقل ولا حكمة كي يؤسّس البنى العسكرية والأمنية والسياسية والأيديولوجية المعادية بجلاء لكيان الاتحاد الروسي.
ويتذكر العالم، كل العالم، ذلك الخطاب التاريخي الذي ألقاه الرئيس فلاديمير بوتين في مؤتمر الأمن الأوروبي في مدينة ميونيخ في مقاطعة بافاريا في ألمانيا الاتحادية في عام 2007 م حينما حذّر قادة الحلف من أن تمادي حلف شمال الأطلسي في التوسع بعضويتهم نحو الشرق، قد يعرض السلام العالمي للخطر، وربما لحرب عالمية ثالثة، لكنهم كالعادة يستخفون ويتجاهلون ويتغطرسون في مواقفهم تجاه تحذيرات القيادة الروسية من خطر الوقوع في حبائل الحرب العظمى ونتائجها المرعبة.
روسيا الاتحادية أو الاتحاد الروسي أو الشعوب الروسية المتمددة على مساحة جغرافية من الكرة الأرضية تعادل سدس مساحة العالم، وتسبح على مياه عذبة تقدَّر بربع ما تمتلكه الكرة الأرضية كلها، وتملك من الثروات الطبيعية الشيء الكثير والذي جعلها في مرمى مطامع قوى الشرق من أيام القائدين التتريين المغوليين جنكيز خان وهولاكو، وجعلها كذلك محط اهتمام لاحتلالها من جانب القائد الفرنسي الطامح نابليون بونابرت، والقائد الألماني النازي أدولف هتلر، جميعهم وصلوا إلى الأسوار الخارجية وحتى الداخلية للعاصمة موسكو، ومعظم الغزاة مر بجياده وعتاده وجنده عبر السهول الأوكرانية، مع أنها كانت يوم ذاك جزءاً من الجغرافيا الروسية والثقافة الروسية والديانة الأرثوذكسية الموسكوفية.
هكذا التاريخ يذكرنا، فكيف أراد حلف شمال الأطلسي اليوم أن يحول أوكرانيا البلد والثقافة والتضاريس والإنسان إلى عناصر معادية للشعب الروسي؟
روسيا ليست بلداً عابراً في التاريخ، فهي من صُنّاع الحضارة الإنسانية على مدى يزيد على ألف عام، وهي عنصر فعّال ومؤثر في الحضارة الإنسانية، وحدودها الجغرافية، كما قال الرئيس فلاديمير بوتين وهو يخاطب مجموعة من طلاب إحدى المدارس الابتدائية الروسية في مدينة سانت بطرسبورغ، هي العالم أجمع براً وبحراً وعبر الفضاء اللامتناهي.
وفي الثقافة والآداب والعلوم والفكر والفنون ساهمت الحضارة الروسية في كل مجالاتها في ثراء واسع وبسخاء لا حدود له وبنوعية لافته. كل متاحف الدنيا تمتلئ بالفن الروسي، وكل مسارح الكون المهمة تُدار منها أعظم الأعمال المسرحية الراقية، وفي الفكر هم حاضرون كماً ونوعاً. وهنا يبرز سؤال مهم: ألا يُدرك طابخو المؤامرات الغربية الأطلسية عابرة الحدود ومُعدوها أن مؤامراتهم ضد الحضارة الروسية هي أمر فاشل، وموضوع مقزز لدى الشعوب الأوروبية والعالمية، وأن الطغمة النورانية الصهيونية الرأسمالية الأوروبية والأميركية ستقود إلى خراب العالم كل العالم.
بلغت العقوبات، التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا الغربية وحلف شمال الأطلسي، منذ شهر شباط/فبراير2022م على روسيا الاتحادية، 16500 عقوبة. أليست هذه حرباً عدوانية نفذها الأعداء للروس، وتوازي كل حروب هولاكو ونابليون وهتلر؟
ألا يدلّ ذلك التصرف على رعونة السياسيين الأميركيين والغربيين عموماً، وهي سابقة خطيرة في التاريخ، وتشير إلى أن الدول الاستعمارية الغربية التي بدأت حروبها الإجرامية على الشعوب، منذ نحو خمسمئة عام تقريباً، وتحيي في ذاكرة الشعوب الحرة من حول العالم جميع جرائم الاستعمار الأوروبي العنصري الأبيض، من أميركا وأفريقيا والوطن العربي الإسلامي وآسيا، وهي جرائم متوحشة بشعة لا يمحوها تقادم السنين.
لكن القيادة الروسية، بشجاعتها وحكمتها وبسالتها، استطاعت أن تتجاوز كل التحديات وتنسج علاقات إنسانية دولية أكثر إنسانية مع الشعوب من خلال تأسيس منظمة البركس وتطويرها، والمشاركة الإيجابية مع جمهورية الصين الشعبية في مد طريق الحزام والحرير وتطويره، ومشاركتها في التخفيف على القارة الأفريقية من آلام الفقر والجوع واضطهاد المستعمر الأوروبي القديم واستغلاله للقارة السوداء.
ما أنجزته الحكومة الروسية في الأعوام الماضية لخدمة القضايا التحررية العربية والإسلامية والدولية أعظم كثيراً مما قدمته تلك القرارات المتوحشة للنظام الغربي الأطلسي، والتي تحاول أن تعيد عجلة التاريخ إلى الخلف، وتبحث بصعوبة في إعادة ترسيخ النظام الاستعماري البالي القديم، والذي ذهب إلى مزبلة التاريخ من غير رجعة، وغير مأسوف عليه.
ما المعالم الجديدة لتشكل نظام دولي جديد لإدارة العالم بأقطابه ومصالحه وتطلعاته الإنسانية الواسعة؟
أولاً:
يجب العمل على تطوير المنظومات الإدارية والسياسية والمالية والاقتصادية والإعلامية لمنظومة البركس، ودعم توجهاتها على الصعيد الدولي كي تأخذ مكانها الملائم في السوق العالمية ومسرحها الدولي، من أجل حماية جميع الدول المنضوية تحت لوائها، واستقطاب الدول الراغبة في الخروج من تحت الهيمنتين الأميركية والأوروبية، وتحديداً دول الجنوب التي تعرضت لظلم الاستعمارين القديم والحديث.
ثانياً:
على الشعوب والبلدان والحكومات أن تستوعب الدرس الاستعماري القديم مع جرائمها، التي لا تُعَدّ ولا تحصى، ويجب أن يعاد تدريسها في جميع أركان الكون لكرتنا الأرضية، للطلاب والطالبات في جميع مراحل التدريس، من الابتدائية حتى الثانوية وطلاب الجامعات والدراسات العليا، وأن عمر الإنسانية في آخر خمسمئة عام شهدت كل الجرائم الصارخة في إبادة شعوب وحضارات وأمم في كل من الأميركيتين وأفريقيا وعالمينا العربي والإسلامي والقارة الهندية الصينية وأستراليا. ويجب أن نقول لأبنائنا الطلاب إن الحركة الصهيونية الاستعمارية الإمبريالية هي من يقف وراء كل مآسي البشرية وكوارثها طوال القرون الخمسة الماضية.
ثالثاً:
يجب الاستفادة من دروس التاريخ، الذي حوّل الشعب المليوني الصيني إلى شعب متعاطي مخدرات بسبب الاستعمارين البريطاني والفرنسي، حينما فرضا على الحكومة الصينية المنهزمة في الحرب بيع كل أنواع المسكرات والمخدرات وتسويقها، كي يبقى الصينيون مرضى من تأثير هذه المادة القاتلة.
ونذكّر أبناءنا الطلاب حول العالم بأن المستعمر البريطاني حينما احتل القارة الهندية في عام 1758 م، كانت الهند تنتج حينها ربع الإنتاج العالمي 25%، وتغذي الكرة الأرضية بجميع المنتوجات الصناعية والزراعية والمنسوجات القطنية والحريرية والبهارات وغيرها، وحينما فُرض على المحتل البريطاني المغادرة من الهند كانت أوصلت إنتاجها العالمي إلى 2% من الإنتاج، تخيلوا معي ماذا لعب المستعمر الأوروبي البغيض بالشعوب وبإفقارها.
رابعاً:
علينا أن نذكّر أبناءنا الطلاب حول العالم بأن اتفاقية سايكس ــ بيكو الفرنسية البريطانية مزقت عالمينا العربي والإسلامي من خلال تمزيق خريطتنا الجغرافية والإنسانية والشعبية، وأن وعد وزير الخارجية البريطانية المرتشي الفاسد آرثر بلفور هو صاحب الوعد المشؤوم (الذي زرع الكيان الصهيوني اليهودي) في أرضنا العربية الفلسطينية، وأن هذا الكيان الموقت وصنيعة حلف شمال الأطلسي مارس ويمارس أبشع مجزرة إبادة جماعية في هذا الشهر الرمضاني الكريم بحق الأطفال والنساء والشيوخ لدى الشعب العربي الفلسطيني، وبشراكة داعمة بالسلاح والمال والقرار الدبلوماسي الدولي من جانب أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وهولندا وسائر من لف لفها من عواصم أوروبا الغربية.
خامساً:
ظهر التمايز والفارق الشاسعان والبون الهائل بين موقف الشعوب الحرة حول العالم، وبالذات في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية، وبين الطغمة الحاكمة في بلدان حلف شمال الأطلسي.
ذلك الفارق ظهر جلياً من خلال تباين الموقفين الشعبي والطغم الصهيونية الأولغارشيه الحاكمة المسيطرة في تلك البلدان الغربية. التباين ظهر جلياً من خلال دعم هذه الطغم الحاكمة الأولغارشية في عواصم تلك البلدان الغربية ومساندتها لجيش الكيان الصهيوني اليهودي وعصاباته، وبين الشعوب ومنظماته الحرة التي تنادي بحرية فلسطين وإيقاف الإبادة الجماعية للفلسطينيين في قطاع غزة.
سادساً:
الاتحاد الروسي والصين الشعبية لديهما المؤهلات التاريخية والأخلاقية والعلمية والاقتصادية والثقافية بأن يقودا محور القطب الثنائي المنافس لقيادة العالم، وهما طاقة هائلة محركة لتطور التاريخ نحو المستقبل، ولذلك جاء التنسيق السياسي والعسكري والأمني والإنساني الواسع بين كل من الصين الشعبية وروسيا الاتحادية وجمهورية إيران الإسلامية في المحافل الدولية.
سابعاً:
شكّل محور المقاومة في عالمينا العربي والإسلامي ضد جميع المشاريع الصهيونية العالمية أساساً متيناً وضامناً قوياً لتأمين حقوق الشعب العربي الفلسطيني. لذلك، نجد قادة المقاومة الفلسطينية من حماس والجهاد الإسلامي يذهبون إلى طهران للقاء قادة إيران المقاومة، ونجد أن التنسيق العلني بين قيادة المقاومة اليمنية والفلسطينية واللبنانية والعراقية يحدث في العلن، وليس من خلف الكواليس..
ذلك التنسيق يأخذ مداه سياسياً وأمنياً واستخبارياً وعسكرياً، خدمة لجبهة المقاومة الرئيسة في قطاع غزة البطلة الصامدة في وجه آلة الكيان الصهيوني الإسرائيلي الأميركي الاطلسي.
الخلاصة:
هذا العالم، في القرن الحادي والعشرين، يحتاج إلى تعدد الأقطاب لإدارته وحماية مصالح دول الجنوب وشعوبها، وسيشكل قطبا الرحى الروسي والصيني المحور الجاد والضامن لتعدد الأقطاب، وهو مطلب شعبي وإنساني تنادي به الشعوب الفقيرة والمظلومة، بعد أن زاد جور بلدان حلف شمال الأطلسي ومن يدور في فلكها..
والتجربة الاستعمارية القديمة والجديدة المُرة، والممتد عمرها أزيد من خمسة قرون في قهر الشعوب الأخرى في الأميركيتين وأفريقيا وآسيا وسائر دول العالم، واحتلالها وتدميرها وإبادتها، هو الشاهد الصارخ على إقامة نظام أكثر عدلاً وأكثر أمناً وأكثر إنسانية من ذلك النظام الذي فرضه الاستعمار الأوروبي البغيض. |
|
|
|
|
|
|
|
|
تعليق |
إرسل الخبر |
إطبع الخبر |
معجب بهذا الخبر |
انشر في فيسبوك |
انشر في تويتر |
|
|
|
|