أحمد العشاري - الوحدة الوطنية ثابت يمني مقدَّس، ومسلمة دينية ووطنية وإنسانية وتاريخية، وضرورة حياتية وأمنية واقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية وتنموية وحضارية، وعامل بِناء ونماء وتقدم ورخاء، وركيزة حرية وديمقراطية ومساواة وعدالة اجتماعية، واستقرار وسلام داخلي وخارجي، ومصدر قوَّة وعزَّة وكرامة لليمن أرضًا وإنسانًا، وهي القاعدة التاريخية الثابتة عبر كلِّ العصور والدهور منذ الوجود البشري الأول على ثراها حتى اليوم، والتمزق والانقسام كانا الاستثناء الضئيل المعدود المحدود؛ حيث تُفيد حقائق وشواهد التاريخ أن التمزق كان يظهر أحيانًا وغالبًا ما يغيب وينعدم لفترات زمنية طويلة، وأمره محصور ومقصور في نطاقات جغرافية، ومجموعات بشرية ضيِّقة، وعلى مستوى أنظمة وجماعات الحكم المتغلِّبة على هذه المنطقة وتلك؛ بطبيعتها الاستبدادية ونظرتها الضيِّقة القاصرة وأنانيتها ونزعتها الإقصائية للآخر، ومنطلقاتها اللاوطنية ودوافعها التسلطية وعصبيتها المذهبية والاجتماعية، كحركات متمردة خارجة عن الدول والحكومات وأنظمة الحكم الوطنية الكلية، وكفصائل وجماعات متعطشة للحكم دونما أهلية له وقدرة عليه، وقوة حقيقية تمكنها من السيطرة الكاملة على كامل الكيان الجيوسياسي اليمني وليس لها امتدادات وطنية، ولا حضور أو قبول سياسي وشعبي خارج نطاق مركزها الاجتماعي وحدود حجم قوة الغلبة لديها؛ فتكتفي بما تتغلَّب عليه من الأرض والبشر، وتعلن فيه دولتها المستقلة هنا وجماعة أخرى مشابهة تقوم بالعمل نفسه هناك، ومجموعة أخرى تستقل بجزء آخر من البلاد... وهكذا كانت تجري الأحوال في بعض المراحل الزمنية من التاريخ اليمني، إلى حدِّ أن هذه الكيانات والدول تجاوز عددها العشرات في بعض الأوقات، منها ما هو بفعل هذه القوى المحلية، ومنها ما هو بفعل الغزو والاحتلال والاستعمار الخارجي أو بدعمه، ولكنها لا تلبث طويلًا وسرعان ما تضمحل وتتلاشى وتختفي من الوجود، ويعود التوحُّد الوطني من جديد في إطار ونطاق دولة ونظام سياسي واحد، ويكون ذلك عندما يتوفر قائد وطني جامع أو مجموعة سياسية وطنية قوية تحمل المشروع الوطني الجامع لكل أبناء اليمن، يقوم على العدالة والشراكة والتسامح والقبول بالآخر، والتمثيل العادل، ونظام الحكم اللامركزي، وعدم الاستبداد والطغيان، والتوزيع العادل للسلطة والثروة، ورعاية مصالح المواطنين وخدمتهم دون تمييز.
والتاريخ القديم والحديث والمعاصر يفيد بهذه الحقائق الجوهرية، التي تمثل أس وأساس العودة إلى التوحُّد السياسي بعد الشتات، ابتداءً من الإيمان بها مرورًا بإعلانها والدعوة إليها وترجمتها وتجسيدها فكرًا وعملًا وسلوكًا في واقع حياة الشعب، الذي كان عبر التاريخ كلِّه موحدًا جنسًا وفكرًا وانتماءً وثقافةً وروابط اجتماعية ومصالح اقتصادية وأهدافًا وآمالًا وآلامًا ولغةً ودينًا وعقيدة؛ فقد كان دينه قبل الإسلام واحدًا في كلِّ أرجاء البلاد، وعندما جاءت الديانات السماوية آمن بها ابناؤه جميعًا، وصولًا إلى الدين الإسلامي الذين آمنوا به وصار -بمشيئة الله- دينهم الواحد؛ باستثناء طائفة قليلة من أهل الكتاب ظلَّت على دينها تمارس عبادتها بكلِّ حرية، وتحيا مع سائر أبناء جلدتها اليمنيين على قاعدة التعايش والمواطنة والعدالة بانسجام ووئام... وكما كان سيظل كذلك وستزول كل الانقسامات السياسية الطارئة المستجدة، كما زالت التي قبلها وكانت هي الأعمق والأخطر والأضر والأكثر عددًا وأشدَّ أوقاتها قتامةً وحلكةً وجهلًا مجتمعيًا..
وما يجب لفت الانتباه إليه في هذا المضمار هو أن الكيانات الانفصالية التي شهدتها البلاد في العصر الإسلامي لم تكن محصورة في منطقة أوجهة معينة، وإنما شاملة لكلِّ المناطق.. وما تكاد توجد منطقة في شمال اليمن وجنوبه وشرقه وغربه إلا شهدت انفصالًا ووجود كيان مستقل فيها، ولم تكن النزعة الانفصالية سمة جهة أو منطقة معيَّنة أو سكان معينين أبدًا..
وقد كان آخر تشطير وانقسام دام ما يقارب قرنًا ونصف من الزمن؛ بفعل الاستعمار البريطاني والعثماني الذي قسم الجبال بين شمال وجنوب، وغادر الاستعمار بشقِّيه، وظلَّت آثاره التشطيرية الانقسامية فترةً بعد رحيله.. ظلَّ الشعب وأنظمته الوطنية المتعاقبة في حالة استنفار وعمل متواصل للتخلص من الوضع التشطيري المزري والمؤلم الذي يمثِّل نقطةً سوداء في شرف الأمة، وعارًا يتوجَّب محوه واستعادة اللُّحمة..
واستمرت الجهود حتى قيَّض الله المؤتمر الشعبي العام بميثاقه وقيادته الفذَّة، ممثلةً بالرئيس الزعيم الشهيد علي عبدالله صالح -رحمه الله- في الشمال، والحزب الاشتراكي اليمني في الجنوب بقيادة أمينه العام الأستاذ علي سالم البيض، اللذين قادا الشعب اليمني للوحدة في 22 مايو 1990م، ومعهما كلُّ شرفاء اليمن، مُنهين بذلك حقبةً تاريخيةً سوداء مظلمةً تكبَّد خلالها الشعب اليمني المعاناة الأليمة، وقدَّم في سبيل إعادة وحدته التضحيات الجسمية..
وبدافع من الغيرة والحسد الإقليمي والضعف والأطماع السياسية الداخلية ظلَّت المؤامرات تُحاك ضدَّ هذه الوحدة العظيمة، ونصب أعداء الداخل والخارج لها الشراك والمكائد، واضعين في طريقها كلَّ العوائق والمشكلات، وبوعي الشعب والجيش في دولة الوحدة وصمودهما فشلت مؤامرة 1994م، وأمكن تحقيق إنجازات تنموية وديمقراطية كبيرة.. ومافتئ المتآمرون يكيدون حتى جدَّدوا المؤامرة بأحداث 2011م المسمٍاة "أحداث الربيع العربي" الممولة إقليميًا، والمخططة والمرعية دوليًا؛ انتقامًا من النظام السياسي الحاكم الذي لم يستجب لمطالب الخارج والمصالح الاقتصادية على حساب المصالح والسيادة اليمنية وأمنها واستقلالها؛ فتفكَّك النظام وكان ما كان، وامتدَّ التآمر ليمس بالوحدة الوطنية وأمن واستقرار وسيادة البلاد ومصالحها العليا ولتُشن حرب مدمِّرة أطرافها محلية وخارجية مشتركة دفع الشعب اليمني فيها مئات آلاف من الشهداء والجرحى، ودمَّرت المنشآت والمؤسسات والمكاسب والمقدرات الوطنية ومقومات الحياة بمختلف مجالاتها، وحوصر الشعب وتشرَّد وتعرَّض للجوع والفقر والعوز، وانتُهكت السيادة واستهدُف رموز الوحدة والديمقراطية.. وكلُّ ذلك كان بفعل العمى الوطني لدى الأطراف وعدم تغليبهم للمصلحة الوطنية، وتسيُّد نزعة الحقد والفجور في الخصومة والانتقام من بعضهم، والرغبة غير المشروعة في السلطة والحكم وفق المفاهيم القديمة الموروثة التي تسبَّبت في الماضي بكوارث جمَّة على الشعب اليمني، ومزَّقت البلاد وترتَّب عليها كوارث مدمِّرة في الماضي، واليوم يُعاد إنتاجها بعيدًا عن منطق العصر ومقتضياته، وما قطعته البلاد من شوط كبير في جوانب تعزيز الوحدة الوطنية والمبادئ الجمهورية والممارسة الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والشراكة الوطنية والمساواة والتنمية والبنية الاقتصادية والخدمية والتداول السلمي للسلطة وسيادة القانون– وهي الأسس والمبادئ والشروط والالتزامات التي قامت عليها الوحدة والجمهورية اليمنية، والتي نكثها ونكص عنها من جاءوا للحكم بعد أحداث 2011م؛ وبسبب ذلك ظهرت الدعوات والشعارات الانفصالية في الجنوب، والممارسات والإجراءات الانفصالية الشطرية في الشمال، وصارت المناطق اليمنية المختلفة، بفعل الممارسات والإجراءات التعسفية السلطوية، ترغب وتنزع إلى الانفصال؛ كلٌّ يريد أن يقيم لنفسه في منطقته دولة، والخطر الأكبر يتمثَّل بما يتمُّ على صعيد فصل الجنوب عن الشمال، وحالة الانقسام الجغرافي والسياسي والعسكري التي تُمزِّق اليمن إلى ستة أقسام؛ كلُّ قسم يشكِّل كيانًا مستقلًّا.
وبات وجوبًا على كلِّ يمني ويمنية وكلِّ طرفٍ من أطراف الصراع أن يغلِّبوا المصالح الوطنية على مصالحهم الشخصية والحزبية والفئوية الأنانية، وأن يتخلُّوا عن نزعاتهم المريضة المدمِّرة، ويقفوا على صعيدٍ واحد مُلقين السلاح، متحاورين متصالحين متسامحين متنازلين، متشاركين محتكمين للدستور والقانون اللذين هما سياج الوحدة والتوحُّد والأمن والسلام للجميع، وإعادة الوحدة الوطنية إلى سياقها الطبيعي؛ بالالتزام بتلك الشروط والأسس والمبادئ المشار إليها آنفًا، والتي على أساسها قامت وعادت اللُّحمة اليمنية في22 مايو 1990م، والتي تحلُّ علينا ذكراها الـ34 وما يزال أحد رموزها وصانعيها المناضل علي سالم البيض على موقفه المعلن في 1994م المتمثِّل بفكِّ الارتباط وإعلان الانفصال؛ على الرغم من مرور 30 عامًا عليه ولم يصدر من قبله إعلانٌ يلغيه واعتذار عنه، ليعود إلى موقعه في منصة الشرف الوحدوي العظيم ويقطع بذلك الطريق أمام رافعيه، والمتمسكين به، والداعين والداعمين له بدوافع غير نبيلة ولا مشروعة.. وكم نتمنَّى عليه فعل ذلك اليوم دون تأخير لا سيما وقد تغيَّرت خارطة القوى السياسية وتبدَّلت الأحوال والظروف والحكَّام والخصوم؛ منهم من قضى نحبه، ومنهم من صار خارج المشهد وصار واحدًا منهم ولم تعد له في فكِّ الارتباط والانفصال أية مصلحة من أي نوع، ولم يعد في الحياة متَّسع لطموح في حكم وسلطة، ولم ولن يجني من ذلك سوى وزر التاريخ الذي دخله من أوسع أبوابه وخرج منه من نوافذه الفسيحة.. والمستفيد متاجرةً واستثمارًا مادِّيًا مؤقَّتًا غيره والأتباع من جيل الصغار الذين لم يعيشوا ويلات وعذابات ومعاناة وكوارث التشطير، ولم يعرفوا حجم التضحيات الجسيمة التي قدَّمها الشعب اليمني في سبيل الوحدة والجمهورية والحرية والمساوة والسيادة والاستقلال والديمقراطية والعدالة والخدمات الاجتماعية والتنمية واللامركزية والتداول السلمي للسلطة وسيادة القانون، واعتماد وتقرير ذلك دستوريًا وقانونيًا ومؤسسيًا، وصار كلُّ ذلك في مهبِّ الرياح وتحت خط العودة إلى الصفر، ولن يتسنَّى إعادة بناء وإيجاد تلك المنجزات إلا بعقود من الزمن، وبجهود مضنية، وكُلَف باهظة..
التحية والتقدير والاحترام والإجلال والرحمة والخلود لصُنَّاع الوحدة والمنجزات الوطنية في شتَّى الميادين وكلِّ الشهداء الميامين..
اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون، واهدِنا جميعاً لما ينفعنا ويرفعنا ويصلح أحوال شعبنا وبلادنا.. اللهم آمين. |