مبارك حزام العسالي - ونحن نحتفل بالذكرى الـ 34 للوحدة اليمنية تخليداً ليوم الـ22 من مايو 1990م ذلك اليوم الذي سجَّل فيه اليمنيون أعظم منجز ليس وطنياً فحسب، بل إنجازاً عربياً عظيماً غير مشهود حتى اليوم، والمتمثل بإعادة تحقيق الوحدة الأزلية لكيان اليمن السياسي والاجتماعي على ترابنا الوطني غير القابل للتجزئة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.. أنعش اليمنيون بهذا الإنجاز التاريخي آمال الملايين من أبناء الأمة العربية بتحقيق أملهم وطموحهم المنشود في بناء قاعدةٍ صلبةٍ للتضامن بين أقطارنا العربية، والتوحد على الأهداف المشترَكة الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، ولكن تدخُّل الأيدي الخارجية للدول التوسعية الطامعة بموقع اليمن الحيوي ومعهم القوى الإقليمية المتربصة باليمن شراً، عملت على خلق الأزمات وتأجيج الصراعات المتتالية بين اليمنيين لإفشال هذا المنجز العظيم "الذي حققه اليمنيون بعد تضحيات كبيرة ونضالات جمَّة خلال عقود"، دخلت اليمن بسلسلة من الصراعات سواء السياسية أو الاقتصادية أو الصراعات القبلية التي لم تكن وليدة اللحظة، بل هي مستمرة منذ أن عُرفت اليمن، وكتب عنها الكُتّاب والسياسيون والمتخصصون والإعلاميون في كل مرحلة من مراحل الصراع في اليمن..
ونحن اليوم نواجه أوج هذه الأزمات وأشدها على المجتمع العربي برمته وليس اليمني فحسب، الذي حُرم من أبسط حقوقه جرَّاء تدخلات الأشقاء والقوى التوسعية الدولية..
وتأتي ذكرى إعادة تحقيق الوحدة اليمنية هذا العام 2024م، استثنائية، بالنظر إلى ما تحمله من صعوبات وما تواجهه اليمن من تحديات بعد 9 أعوام من العدوان السعودي الإماراتي الأمريكي البريطاني الصهيوني، وفي ظل مواجهة العدوان الأمريكي البريطاني الذي أتى لمعاقبة اليمنيين على خلفية وقوفهم مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة وتدخُّلهم بإسناد المقاومة الفلسطينية في غزة في مواجهة ثلاثي الشر أمريكا وبريطانيا والكيان الإسرائيلي من خلال منع الملاحة الإسرائيلية والأمريكية في البحرين الأحمر والعربي وصولاً إلى المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط في المرحلة الرابعة من التصعيد اليمني..
ولابد أن نشير هنا إلى حقائق تاريخية وأن الصراع القائم ليس وليد اللحظة، بل هو صراع أزلي بين الحق والباطل، وهو ما أثر على تجربة الوحدة اليمنية، "بحسب الدراسات"، فقد اشتهر الشعب اليمني منذُ القِدَم بمقاومته العنيدة والشجاعة لكل أشكال التدخلات الخارجية، ويكفي أن نذكر باختصار شديد تصدّي الشعب اليمني للاحتلال العثماني، فمنذ عام 1538م حين احتل العثمانيون المنطقة الساحلية، استمرت المقاومة اليمنية حتى عام 1635م، حيث أُجبروا على الانسحاب، لكن العثمانيين عادوا واحتلوا ميناء الحديدة عام 1849م، وفي عام 1872م أرسل العثمانيون حملة واسعة لاحتلال جميع أرجاء اليمن، وذلك للاستفادة من التحول الذي نجم بعد فتح قناة السويس عام 1869م، وأرادوا طرد الإنجليز من عدن التي احتلوها عام 1839م، لكن جهودهم أخفقت، الأمر الذي دفعهم على عقد معاهدة مع الإمام يحيى حميد الدين عام 1911م..
وبعد الحرب العالمية الأولى نشأت المملكة المتوكلية اليمنية كدولة مستقلة، وقد تم الاعتراف بها بموجب معاهدة (لوزان) في 23/ 7/ 1927م واعترفت بها عصبة الأمم المتحدة، وهكذا انقسم اليمن إلى ثلاثة أجزاء هي:
1ـ المملكة المتوكلية اليمنية في الشطر الشمالي.
2ـ محمية عدن وتوابعها، وكان البريطانيون قد توصلوا إلى رسم حدودها مع السلطات العثمانية عام 1904م لكنهم لم يصادقوا عليها إلا في عام 1914م.
3 ـ إمارة الأدارسة في تهامة وعسير وجيزان..
(مقدمات الوحدة - جهود الأئمة الزيديين)
تأسس الحكم الزيدي في اليمن عام 1510م، وقد استطاع بسط نفوذه على معظم أرجاء اليمن حتى عام 1839م، وكان يُجابَه بعدة أشكال من الرفض القبائلي من قِبَل بعض القبائل التي كانت تسعى إلى نيل قدر أكبر على حساب السلطة المركزية..
وفي عام 1918م سعى الإمام يحيى إلى تحديث الدولة وجيشها ومؤسسات الأمن الأخرى، كما سعى لإنشاء المدارس، وقسَّم البلاد الى أقسام إدارية، وتطلع إلى بسط نفوذه على كل أرجاء اليمن بما فيها عدن وما حولها، إلا أن الإنجليز استبقوا الإجراءات في كبح جماحه، فتحالفوا مع خصومه من الأدارسة الذين حرموا دولته من الموانئ، فوجد نفسه محاطاً بالأعداء..
ومع وفاة محمد بن إدريس عام 1923م، تحرك الجيش اليمني لبسط نفوذه على إمارته، فعرض الأدارسة أن تبقى إمارتهم شبه مستقلة مقابل انضوائها داخل المملكة المتوكلية، فرفض الإمام يحيى هذا العرض، مما جعل الأدارسة يطلبون العون من ابن سعود الذي عقد معهم معاهدة في الـ21 /10 / 1926م، وهي المعاهدة التي لم يعترف بها الإمام يحيى، وفي الـ22 /11 /1930م ضم ابن سعود إمارة الأدارسة عُنْوةً إلى ممتلكاته التي أصبحت جزءاً من المملكة العربية السعودية وقت إعلانها في 22 /9/ 1932م، وقد وقفت بريطانيا مع ابن سعود وأمدته بالذخيرة والسلاح والمدرعات، في حين حجزت شحنة أسلحة إيطالية كانت تضم 8000 بندقية مع ذخيرتها كانت قادمة إلى المملكة المتوكلية التي كانت في حالة مناوشات مع السعوديين..
وفي 19/5/1934، وبعد أن نصحت الحكومة البريطانية آل سعود بعدم المِضِي طويلاً في حربهم مع اليمن، عقدت اتفاقية الطائف التي أعطت لآل سعود حكم عسير وجيزان لمدة عشرين عاماً من تاريخه على أن تراجَع تلك الاتفاقية لتعديل الحدود قبل انتهاء المدة بستة أشهر؛ "وهو ما لم يتم حتى يومنا هذا".. ولقد كان وراء قبول الإمام يحيى بتلك الاتفاقية، شعوره بعدم جدوى الصراع مع آل سعود وعدم إمكانية تحقيقه النصر، وقد كانت اتصالات البريطانيين مع الإمام تحمل شكلين من التصرف، الترغيب في تَرْك الإمام يحيى وشأنه مقابل تَرْكهم في عدن، وبين استخدام القوة عندما يتجه للتحالف مع آخرين كالإيطاليين؛ كما حدث في استخدام سلاح الجو البريطاني بقصف مواقع الجيش اليمني ومدنه..
وهكذا فإن عام 1934م كان عاماً لهزيمة الدولة المتوكلية في توقيعها اتفاقيتين، واحدة مع السعوديين تترك لهم إمارة الأدارسة لمدة عشرين عاماً، وواحدة مع بريطانيا تسمح لهم بالبقاء بعدن مدة 40 عاماً.. ويُعتبر عام 1934م عام توقُّف للطموحات اليمنية في التوحد، وقد أدرك اليمنيون "حينها" أن ضعف قدرة البلاد وتركيبتها الاقتصادية والاجتماعية المتخلفة هي التي وقفت وراء ذلك؛ لذلك بدأت هناك حركة إصلاح وتغيير جذريين، كان من نتائجها اغتيال الإمام يحيى في 17/2/1948، فيما عُرف بحركة العام 1948م الدستورية والتي لم تستمر سوى شهر واحد، إذ نجح ولي العهد (أحمد) في استعادة الحكم في 15/3/1948، واستمر في الحكم حتى وفاته في ثورة 26 سبتمبر 1962م، فخلفه ابنه الإمام (بدر) والذي لم يستمر حكمه سوى أسبوع، وأُعلن النظام الجمهوري..
وأتت بعد ذلك سلسلة من الأحداث يمكن الرجوع إليها من خلال الاطلاع على الكُتب التاريخية؛ حتى وصلت اليمن إلى الوحدة اليمنية الماثلة اليوم التي جاءت عطفاً على التوافق الوحدوي بين الشمال والجنوب اليمني في عام 1990م، وكان من المحتمَل بل المؤكد أن رئيسي الشمال والجنوب إبراهيم الحمدي وسالم ربيع علي في سبعينيات القرن المنصرم كانا على اتفاق بأن تتم الوحدة قبل ذلك بسنوات، وكان من المؤكد أيضاً أن تختلف نتائج الواقع الميداني عما حدث بعد وحدة 22 مايو عام 1990م، استناداً إلى التوافق المسبَق بين الرئيس الشمالي الراحل إبراهيم الحمدي والرئيس الجنوبي سالم ربيع علي.. حتى أتى التوافق التام "حينها" بين الرئيس الشمالي الراحل علي عبدالله صالح الذي كان أول رئيس لدولة الوحدة، والرئيس الجنوبي علي سالم البيض الذي أصبح نائبه فيها، وهذا التوافق لم يكن رغبة شخصية بينهم بل كانت تلبية لرغبة عموم أبناء الشعب اليمني شمال الوطن وجنوبه تحققت في الـ22 من مايو 1990م، اليوم الذي سكن في الأرواح وخلجات النفوس والمُهَج، حتى كان لأمتنا اليمنية موعد مع القدر بانبلاج فجر جديد أشرقت شموسه على ربوع أرض السعيدة من أقصاها إلى أقصاها، وفي هذا اليوم العظيم رغم ما نالها من عراقيل داخلية وخارجية وأخطاء مُورست هنا وهناك أفضت إلى حرب 1994م وما تلاها من تداعيات سلبية في عموم الساحة اليمنية، إلا أن يوم 22 مايو 1990م أعاد اللُحمة إلى الجسد الواحد بإعادة تحقيق الوحدة اليمنية التي حقق اليمنيون خلالها هدفهم المنشود وغايتهم المرجوة وعادت لليمن وحدة الأرض والحضارة والعراقة وأصبحت محط أنظار الأمم كنموذج ينتصر لإرادة شعبه ويصنع الوحدة في زمن التشظّي والانقسام..
نعم.. ستظل الوحدة اليمنية مكسباً تاريخياً عظيماً لا يُقدر بثمن، ولم تكن وليدة ليلة وضحاها ولم تأتِ بالصدفة، بل كانت مطلباً جماهيرياً منذُ الأزل قدم في سبيل تحقيقها أبناء شعبنا اليمني قوافل تلو القوافل من التضحيات منذُ بداية ثورة 1948م وحتى ثورة 1955م وصولاً إلى ثورة 26 سبتمبر 1962م والأحداث التي سبقتها والتي ذكرتها بداية المقال، حتى أنجبت الوحدة اليمنية من رحم كل هذه المعاناة والأحداث على أرض الحضارة ومهد العروبة اليمن..
ولا ننسى أن نثمّن جهود كل الوطنيين الأحرار الذين وقفوا أمام كل من تربَّص بالوحدة وبقوا يدافعون ويذودون عن الوحدة اليمنية حتى يومنا هذا وفي مقدمتهم المؤتمر الشعبي العام الذي كان له الدور الأبرز في تحقيقها؛ وتحققت عبر مسيرتها المظفرة منجزات عملاقة وشهدت اليمن نقلة نوعية في جميع المجالات التنموية وتلاحقت منجزاتها العملاقة بوتيرة متسارعة وفي فترة وجيزة في إطار العلاقات الخارجية التي تُعتبر العمود الفقري الذي يشكل همزة الوصل بين الدول والشعوب من خلال الدبلوماسية اليمنية النشطة البنَّاءة، وفي مجال التربية والتعليم ومجالات كثيرة لا يتسع المجال لذكرها..
وها نحن اليوم والألم يعتصر قلوبنا ونحن نستقبل الذكرى الرابعة والثلاثين لقيام الوحدة اليمنية بسبب ما تشهده المحافظات اليمنية الواقعة تحت حكم الاحتلال الذي سعى لإنشاء كيانات انفصالية للنيل من هذا المنجز اليمني والعربي الكبير بغرض إعادة اليمن إلى مربع الانقسامات والصراعات والاقتتال والضعف والهوان، ليسهل له الاستمرار في احتلاله ونهب ثرواته، وحرمان الشعب اليمني من حقوقه ومنعه من استخراج ثرواته وبناء دولة يمنية قوية وحديثة، ولكن شعبنا لن يسمح بذلك وسيستمر بزخم أقوى في الحفاظ على وحدة اليمن ووحدة القلوب حتى تحقيق النصر على أعدائه من الدول والقوى الإقليمية والدولية.
|