د. عبدالعزيز محمد الشعيبي -
في عصرنا الحاضر تتقزم كثير من الأشياء وخصوصاً تلك المتعلقة بالقِيَم والأخلاقيات والمعاني الكبيرة ويبقى للكلمة معناها خصوصاً تلك التي تأتي من أفواه وعقول وضمائر رجال أدركوا معنى الحرية والاستقلال وأدركوا المخاطر الكبيرة التي تحيط بالأوطان من كل ناحية وأصبحت الكلمة لديهم إيماناً راسخاً وموقفاً صلباً وقوياً.. هذه الكلمات وهذا المعنى الذي يصدر من خلال الرجال المخلصين لأمتهم وأوطانهم هي تلك الحقائق التي تتجذر في أعماق الضمير الإنساني وهي المحرك والدافع للنهضة ومقاومة المستعمر وتثبيت معاني القِيم والمدركات الأخلاقية التي وإن تغير واقع المجتمع أو هزته الظروف إلا أن هذه المعاني الثابتة والراسخة والصادقة والتي تأتي من خلال نخبة النخبة في المجتمع وقادته هي التي تبقي على السلوكيات التي تعبر عن القيم والأخلاقيات وتجعلها ثابتة ثبوت الجبال..
حديث الكبار
هذه المعاني والمدركات الأخلاقية والتي هي في نفس الوقت قِيم المجتمع بشكل عام لا تخص أحداً بذاته ولا مجموعة بحد ذاتها ولا جهة دون أخرى إنما هي حق أصيل للمجتمع توثق وتثبت من خلال العنصر الديني والثقافي والأخلاقي حتى أنه أصبح من الواجب بمكان السير في هذه القِيم والأخلاقيات كدلالة ومؤشر قوي على هويتك في الإطار الديني والأخلاقي والقومي والوطني..
وهناك في كل زمان ومكان رجال يمثلون قدوة المجتمع في أخلاقهم وشهامتهم ومروءتهم يبقون هم الحصن الحصين للأمة في مواجهة الأحداث والمتغيرات التي لو تُركت لأحدثت خللاً وفرقاً في حياة المجتمع بشكل عام..
ومن المؤسف أن نجد اليوم بعض الصور التي قد يتراءى لنا أنها صوراً بشرية إلا أنها في الحقيقة مسوخات ليس لها علاقة بالعنصر البشري لا من قريب ولا من بعيد..
هذه الصور التي قد نراها متربعة على قمم أوطان وعلى قمم مؤسسات كبيرة إلا أنها لا تعدو عن أن تكون مجرد حجارة تتحرك بتوجيهات وأوامر من أولئك الذين شروهم بثمن بخس وأوجدوا لها وسائل إعلامية تلمّع وتزيّن صورهم وأفعالهم القبيحة لكي تبدو لضعاف النفوس أن هؤلاء هم من يصنعون القرار في أوطانهم..
وفي المقابل فإننا نجد اليوم رجالاً حفظوا العهد ولبوا نداء الواجب وجعلوا من خدمة أوطانهم وشعوبهم قضية جوهرية أساسية لا تتزحزح في ضمائرهم ولا في عقولهم؛ هم فرسان في الزمان والمكان وهم كالجبال في مواجهة التحديات والصعاب وهم في خلقهم مترفعون عن الصغائر، وجُلّ همّهم إعلاء المصلحة الوطنية العليا والتغلب على المعوقات والصعاب ونبذ الفرقة والتمزق والدعوة الى أبدية الوحدة؛
من هؤلاء الرجال الشيخ الصادق بن أمين أبو راس، الذي وأنت تسمع حديثه أو تقرأ كتاباته تستشعر تلك المصداقية المتدفقة من رجل حكيم وخبير ومتفانٍ في لمّ الشمل ومقارعة الخطوب، ومتفائل بأن عطاء الله ونصره لعباده لا شك قريب.. وعند قراءتي صحيفة الميثاق الصادرة الاثنين الماضي في العدد 2186 وبالعنوان الموسوم بـ (المستقبل للوحدة) لكاتبه الشيخ المناضل صادق بن أمين أبو راس، كان لهذه الكلمة غزارة في المعنى وتشخيص للواقع وتفاؤل بما سيأتي في المستقبل بإذن الله تعالى..
وفي الحقيقة فإن كل معنى من هذه المعاني يؤكد ضرورة الوقوف عنده وتحليله، ولضرورة العرض بطريقة تتناسب مع الوقت والمساحة المتاحة فإنني سوف أقتصر على هذه المعاني وفق العناصر الآتية:
أولاً : إن الاحتفال بالوحدة اليمنية هو احتفال بحقيقة تاريخية ثابتة وجلية وناصعة على مر العصور والأزمان هذه الوحدة التي تمثلت في وجود الدولة القوية الراسخة في جنوب شبه الجزيرة العربية والتي كان لها تأثيرها غير المحدود على المستوى الإقليمي والدولي، ولقد خلَّد القرآن الكريم هذه الحقيقة في الدولة اليمنية بآيات بيّنات ستظل تُتلى حتى آخر الزمان، وهذه الحقيقة الثابتة مادياً ومعنوياً بل هي مفخرة لكل الأجيال المتعاقبة في إطار الدولة اليمنية، وهذه الحقيقة الثابتة والمتجذرة في عمق التاريخ - والتي شهد لها الله سبحانه وتعالى وهي أعظم وأرقى وأثبت شهادة يمكن أن تقال في هذا المعنى - قد أوجدت غيرة عند بعض الدول التي نشأت حديثاً ولم يكن لها تاريخ يُذكر؛ ونظراً للهشاشة الفكرية التي يتمتع بها قادة هذه الدول وأيضاً نظراً لارتباط هذه الدول بأصحاب المصالح الاستعمارية وترك أنفسهم رهينة لها، وعدم تشبُّع هذه القيادات بالإيمان الصادق والقِيم الراسخة والأخلاقية للمجتمع، يصبح هذا التاريخ الكبير للوحدة اليمنية مفخرة دائمة لشعبها ومجتمعها..
ولذلك فإن الاحتفال بهذه المناسبة العظيمة يأتي في إطار هذا كله من ضرورة استدعاء هذه المعاني العظيمة والكبيرة، والتي ينبغي أن تترسخ في عقول وضمائر كل أبناء الشعب اليمني..
ثانياً : يضع الشيخ صادق بن أمين أبو راس الجميع عند مسؤوليتهم التاريخية ويوجِد مقارنة بسيطة فيما يتعلق بواقع الحال أثناء وجود المستعمر البريطاني وتقسيم المنطقة الجنوبية من اليمن إلى كانتونات ضعيفة ومحدودة التأثير والعطاء سواء لأهلها وشعبها أو في علاقتها مع الخارج، وأن كل ما يُرسم ويخطط لها إنما يأتي بوعي عميق من خلال ذلك المستعمر الذي لا يرجو سوى مصلحته فقط دون الاعتداد بحقوق الشعب الذي ينتمي إلى هذه الأرض، وهذا ما كان عليه الحال قبل خروج المستعمر البريطاني من أرض اليمن في جنوبه..
ولا بد ونحن نحتفل بيوم الوحدة المجيد استدعاء ذاكرة الأمة في هذه المحن العصيبة ليكون التاريخ هو خير موجّه ومعلّم فيما يتعلق بالشقاء والغلب والمعاناة الكبيرة للشعب اليمني في ظل وجود الاستعمار.. وما أحوجنا اليوم إلى استدعاء هذه الذاكرة والوقوف عندها طويلاً حتى نتبصر ونتمعن في الخطوات التي يجب ان نسلكها نحو مستقبلنا الذي هو مستقبل الجميع وليس مستقبل فئة أو مجتمع ضيق أو منطقة بحد ذاتها..
ثالثاً: يُذكّر الشيخ صادق أبو راس -رئيس المؤتمر الشعبي العام- أولئك المراهنين والمرجفين وأصحاب المصالح الضيقة ورهانهم على أن المصالح الشخصية الضيقة هي الباقية وأن المصالح العامة والمتمثلة بالوحدة اليمنية زائلة بسبب وهمهم المتعلق بأسيادهم وأنهم قادرون على حجب الحقيقة وطمس الماضي والإتيان بحاضر يَجُبّ ما قبله ونسيان كل ما مضى لتصبح ماديات المستعمر الرخيصة هي الأبقى أثراً، وأن على الجميع اللحاق بركب المستعمر واسترخاص قِيمه وعقيدته..
ومن هنا تأتي ضرورة الاحتفال بهذا اليوم العظيم كرمز وحدث تاريخي لا يمكن إزالته أو نسيانه مهما كانت قساوة الظروف والأحوال واشتداد الأزمات..
رابعاً : يؤكد الشيخ صادق أبو راس في حديثه أن قضية الوحدة اليمنية هي قضية الإرادة الشعبية، هذه الإرادة المعبرة عن كل ما هو موجود في الوطن من إنسان وما يتعامل معه الإنسان في إطار البيئة الوطنية لتصبح لها معنى متعلق بسمو التفكير وغزارة المعنى وعمق الحقيقة وتجذرها في النفس اليمنية كمحصلة لتفاعل هذه المعطيات، ويصبح الوطن هو الذي يعيش في عمق ضمير الإنسان اليمني، وهو في الوقت ذاته الوطن الذي يعيش فيه هذا اليمني..
خامساً: ان هذه المشاريع القزمية الصغيرة والتي برزت في وقت من الأوقات كانت فيها محاولات عدة لطمس القِيم والتاريخ والتراث وتم التغرير على بعض أبناء المجتمع بضرورة الخروج على المألوف وكسر قِيم وعادات المجتمع حتى يستطيع أن يعيش في بحبوحة من العيش والرفاه، ومن المؤسف أن بعض مدَّعي الثقافة ومن يسمون أنفسهم بالنخب سواء أكانت السياسية أو غيرها قد استجابوا سريعاً دون أناة أو تفكير واستخدموا كل وسيلة للهدم والخراب وادَّعوا أنهم مصلحون إلا أنهم في حقيقة الأمر هم المفسدون والذين عبر عنهم القرآن الكريم في أرقى معنى في قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 11، 12]..
سادساً : يؤكد الشيخ صادق بن أمين أبو راس على ضرورة الوقوف بجدية ومسؤولية وأمانة لتقييم الواقع، والإنسان البسيط والذي قد تعمى عليه كثير من الأشياء أو تُطمس عنه الحقيقة فإن لحظةً ما من الزمن يجب أن تُدرك وتُستذكر بعناية، والقضية غير قابلة في أن تأخذ مجهوداً كبيراٍ ووقتاً طويلاً حتى يتم التعرف على المتناقضات، والإنسان أياً كان توجهه أو انتماؤه أو تحيزه الفكري بلا شك متمسك بمصلحته وهذه قضية طبيعية وإنسانية لا جدال فيها ولا يمكن المزايدة عليها.. وبالتالي فإن من الصائب إيجاد المقارنة البسيطة بين الوحدة أو العيش في ظل الوحدة والعيش في ظل التمزق والانشطار والتفريط بالثوابت، وأن مكمن المصلحة الحقيقية للشعب بأكمله وليس مصالح ضيقة لبعض الفئات والعناصر، وبلا أدنى درجة من ضرورة التفكير المرهق، فإن المصلحة المادية والمعنوية والأمن والاستقرار والنهضة الحقيقية تكمن في دولة الوحدة بلا جدال وأن أي تعبيرات إعلامية تصدر من الدخلاء والمرضى متمثلة في تزيين تعبيرات غوغائية غير مسلَّم بها ولا تنتمي إلى واقع المجتمع فهي بلا شك منتهية لا محالة، وأن مصالح المستعمر والتي جاءت في ظل ظروف قاسية وتمكن من أن يوجد له في هذه البيئة رصيداً ونتيجة لا يمكن لها أن تدوم أو أن تثبت في واقع الحال، لأن الرصيد المجتمعي والشعبي بإرث الوحدة ثابت ولا يتزحزح وأن هذه الإرادة الشعبية تكتسب قوتها وتأثيرها من إرادة الله الباقية. |