سمير جبور - تحل الذكرى الخامسة والسبعين لـ ‘حرب/نكسة/ نكبة /هزيمة- كارثة’ (سمّها ما شئت) حزيران 1967م، وحال الأمة العربية شعوباً وحكومات وقادة وأنظمة أسوأ بكثير من حالها عشية تلك الحرب.. اربعة عقود ونصف مرت على وقوع الهزة الثانية عام 1967م بعد الزلزال الأول الكبير في سنة 1948م، وكأن شيئاً لم يحدث.. في هذه السنة ضاع القسم الأكبر من فلسطين بعد هزيمة الجيوش العربية المهترئة والتي كان دخولها فلسطين بإحوالها المزرية قد وفَّر ذريعة استخدمتها الصهيونية لتبرير اغتصاب فلسطين وتطهيرها العِرقي، زاعمةً أن جحافل سبعة جيوش عربية زحفت إلى فلسطين للقضاء على "اليهود وقذفهم في البحر".. وبعد مضي ثماني سنوات على النكبة الكبرى، وجدت إسرائيل أن حال العرب لم يتغيّر (كانت ثورة عبدالناصر في بدايتها نسبياً، ولم تكد تُحدِث أي تغيير مهم لا في مصر نفسها، ولا على الصعيد العربي عامة) وجدت الصهيونية أن المجال مفتوح أمامها لشن حرب أخرى على قوة مصر المتنامية ونفوذها المتصاعد، فاشتركت في العدوان الثلاثي(مع إنجلترا الحاقدة ومع فرنسا المنتقمة) عام 1956م، ساعيةً إلى المزيد من التوسّع في الأراضي المصرية وقطاع غزة؛ ولكنها أخفقت في ذلك وأُرغمت على الانسحاب هي وشركاؤها المعتدون، ولم تستطع تحقيق حلمها في المزيد من التمدد، ولم يستطع المعتدون إسقاط عبدالناصر (على حد قول ضابط كبير في الجيش الإسرائيلي ‘الحرب حققت أهدافها باستثناء إسقاط عبدالناصر’). ومرة أخرى، وبعد مرور عقد آخر من الزمن، لم تتخلَّ الصهيونية عن أهدافها التوسعية وتحطيم القوة العربية، فوجدت أن الأمة العربية بصورة عامة ما زالت غارقة في الخلافات والانقسام والتخلّف والضعف وعدم إدراك حجم الخطر الصهيوني، على الرغم من تنامي القوة العسكرية لمصر وسوريا؛ فراحت إسرائيل تعد العدة لجولتها التالية ‘متمتعة’ بعشر سنوات من الاستكانة والوهن العربيين، وعدم مواجهة أي قوة مضادة، إذ وجدت أن ميزان القوى ما زال في صالحها، فاستغلت نقاط الضعف لدى الجيوش والمجتمعات العربية، التي لم تستفد شيئاً من دروس الماضي، علاوةً على الفساد الذي كان يستشري داخل تلك الجيوش، فوجَّهت لها ضربة قاضية في غضون ساعات قليلة، أطلقت عليها إسرائيل ‘حرب الأيام الستة’.. وهكذا كان الخامس من حزيران/يونيو 1967م نقطة تحوُّل كبيرة في مسيرة النزاع العربي الصهيوني؛ فقد شكلّت فرصة ذهبية لكي يتأكد العرب من أطماع إسرائيل في أراضيهم وثرواتهم وتهديدها لأمنهم القومي ويكتشفوا نقاط الضعف في جميع مجالات حياتهم لكي يتصدوا للخطر ولكنهم لم يفعلوا.. كانت نتائج تلك الحرب كارثية بالنسبة إلى مستقبل النزاع العربي ضد الصهيونية؛ ولا حاجة للتذكير بتفاصيل هذه النتائج، لأننا ما نزال نعاني من إرهاصاتها المستمرة حتى يومنا هذا.. علاوةً على ذلك، شكلت تلك النتائج حافزاً للكيان الصهيوني لكي يواصل المزيد من الحروب والاعتداءات والمذابح حتى هذه اللحظة.ط، إذ توهَّم قادة الصهيونية أن إسرائيل هي ‘دولة عظمى شرق أوسطية’ قادرة على التحكّم بمصائر الشعوب، علماً أن الحروب التي شنتها لاحقاً وتلك التي بادر إليها العرب أثبتت زيف هذا الوهم..
دروس منسيّة قليلة هي الدروس المستفادة من كارثة حزيران، وقليلون جداً هم الذين حاولوا تطبيق هذه الدروس التي أصبحت في طي النسيان؛ وعلى الرغم من هذا القليل، إلاّ أنه كان له تأثير مهم لجهة تصحيح الخلل في ميزان القوى بعض الشيء؛ فعلى سبيل المثال أن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر حاول استخلاص العِبَر من الهزيمة، فخاض حرب استنزاف ناجحة (1969 -1970م) إلى حد كبير قال عنها عقيد في الجيش الإسرائيلي ‘كلما طال أمد الحرب ـ وكثرت خسائرها ـ تضعضعت الجاهزية التي هي عنصر رئيسي في معادلة الأمن القومي’.. وأهم درس طبّقه عبدالناصر هو استغلال نقطة ضعف خطيرة في استراتيجية إسرائيل العسكرية تمثّلت في عدم قدرة الجيش الإسرائيلي على الصمود في ما يُسمى في القاموس العسكري ‘حرب مواقع’STATIC WAR.(مقابل الحرب الديناميكية /المتحركّة التي اعتمدت عليها عقيدة إسرائيل العسكرية)؛ فاستخدم المدفعية الثقيلة لدك الاستحكامات والتحصينات التي أقامتها إسرائيل على امتداد قناة السويس (خط بارليف) بصورة يومية وعلى امتداد سنة تقريباً.. وعندما حاول الجيش الإسرائيلي استخدام سلاح الجو لمهاجمة مصادر إطلاق النار المصرية تصدت له صواريخ سام الروسية وأخذت تسقط الطائرات الإسرائيلية المغيرة، فتدخلت أميركا بخداعها المعروف فوافق عبدالناصر على وقف حرب الاستنزاف ولم يتم استكمال تطبيق هذا الدرس؛ ولكن المنية لم تسعفه لمواصلة تحسين ميزان القوى والانتقال من حرب الاستنزاف إلى حرب تحرير الأراضي المصرية.. وما حققه من إصلاحات على صعيد أداء الجيش المصري، استغله سلفه أنور السادات ليشن في سنة 1973م حرب أكتوبر، على قوات الاحتلال حيث حقق فيها الجيش المصري انتصارات مهمة قادت إلى ‘معاهدة السلام’ الكارثية، والتي أسفرت عن إخراج مصر من دائرة النزاع ليخلو الجو للكيان الصهيوني لمواصلة حروبه العدوانية ضد الشعب الفلسطـــيني خاصة وضد الأمة العربية عامة..
دروس وعِبَر غير مستفادة؛ لو لجأ العرب، وأقصد هنا الأنظمة العربية بجيوشها وقدراتها العسكرية والاقتصادية، إلى استخلاص العِبَر والدروس من هزيمة حزيران لاستطاعوا تحرير الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة ولجم شهية التوسع لدى الكيان الصهيوني، وتجنيب شعوبهم المعاناة والثكل.. فما هي هذه الدروس غير المستفادة؟.. أولاً:
- تبيّن بالدليل الواضح عبر مسيرة النزاع العربي الصهيوني أن إسرائيل غير قادرة على شن حرب ضد جيرانها مجتمعين، أو القتال على أكثر من جبهة، ولهذا السبب كان الهاجس الأكبر الذي كان يقضّ مضاجع الجيش الإسرائيلي هو الخوف من قيام ما كان يطلق عيه ‘الجبهة الشرقية’ (دول الطوق: سوريا، الأردن، لبنان، العراق)، ولهذا حرصت إسرائيل على تفتيت هذه الجبهة بكل الوسائل والحؤول دون قيامها..
- ثانياً: لم تستغل الدول العربية ما تتمتع به من عمق استراتيجي لتجر إليه تشكيلات الجيش الإسرائيلي لتشتبك معها تشكيلات الجيوش العربية في عدة محاور، كما طبقت هذه الاستراتيجية خلال معركة الكرامة (21 /3/1968) حيث فُوجِئ جيش الاحتلال بهذه الاستراتيجية فتكبّد خسائر فادحة في الأرواح والعتاد.. ثالثاً: لم تضع الجيوش العربية النظامية استراتيجية قتالية مشترَكة بينها وبين المقاومة التي كان بمقدورها التوغل في الجبهة الداخلية الإسرائيلية وتدمير أهداف استراتيجية خلال اشتباك الجيوش النظامية.. وخلال معركة ‘الكرامة’ اشتبكت المقاومة الفلسطينية بكل فصائلها مع وحدات العدو واستطاعت تحييد سلاح الجو الإسرائيلي..
- رابعاً: عدم لجوء الدول العربية إلى تنويع مصادر السلاح وهي التي تملك ألأموال الطائلة لشرائه من كل مصدر، وهذا ما جعل أسلحة الجيوش العربية في حالة تدنّي بالنسبة لأحدث الأسلحة الأميركية التي يحصل عليها الجيش الإسرائيلي منذ إنشائه.. ولم تستخدم الدول العربية مصادر ثرواتها لإرغام أمريكا على الحد من تزويد إسرائيل بأكثر الأسلحة فتكاً وتدميراً..
- خامساً: عدم اعتراف الدول العربية بأن الاحتلال الصهيوني للأرض الفلسطينية هو تهديد للأمن القومي العربي، وأن حمايته تتطلب تحقيق العمل العربي المشترك الجاد سواء في إطار الجامعة العربية أو تحقيق التنسيق العسكري بين بعض الدول العربية المعنية بالنزاع.. وبغياب العمل العربي الموحد استطاعت إسرائيل مثلاً تحويل مياه نهر الأردن عشية حرب حزيران، من دون مقاومة تقريباً، وهذا ما شجعها على شن الحرب..
- كثيرة هي العِبَر والدروس التي لم تستخلص من نتائج هزيمة حزيران وهذا ما أدى إلى استمرار الاحتلال وإلى مواصلة الكيان الصهيوني إستغلال الوهن العربي من أجل المِضِي في تحقيق مخططاته التوسعية على حساب مصالح الشعوب العربية.. وفي الذكرى الخامسة والأربعين على هزيمة حزيران (يونيو)، لم يتحقق أي عمل إيجابي من أجل تبديد المخاوف على مصير الوطن العربي بأسره، وليس الأرض الفلسطينية وحسب.. ومرة أخرى وفي غياب استراتيجية عربية موحّدة لمواجهة المشاريع الاستعمارية الصهيونية، فإن مخطط تقسيم الوطن العربي وتفتيته يسير بخُطى راسخة.. المشروع الوطني في خطر، ومصائر الشعوب العربية مهددة، وما نشهده اليوم بعد أوهام ‘الربيع العربي’ يشكل العنوان الرئيسي لهذه المرحلة: حروب أهلية وصراعات طائفية ونزاعات دينية من شأنها أن تاتي على البقية الباقية من هذا الوطن بعد تدمير العراق وبعد عزل مصر وتسخيرها في خدمة المشروع الصهيوني في عهدي السادات ومبارك؛ ويجري إغراقها الآن في غياهب صراع ديني وطائفي..
- وكلنا امل بأن هذا بعيـــد المنال لأن الشعوب العربية بأغلبيتها الساحقة لن ترضخ للقوى الظلامية والاستعمارية والصهيونية.. شعوبنا تنفسّت نسيم الحرية في بداية انتفاضاتها وهي عائدة لا محالة إلى الميادين، ليس لكي تستنشق الحرية مرة أخرى، بل لتحقيقها كاملاً.. هذا هو منطق التاريخ ولا عودة إلى الوراء..
|