مازن النجار - منذ انطلاق ملحمة "طوفان الأقصى" في 7 تشرين أكتوبر 2023م، شهدت قضية فلسطين والعالم، في برهة من الزمان، تحوّلات فارقة لم يشهدها قرن من الصراع العربي- الصهيوني والكفاح الفلسطيني للتحرر الوطني، وما لحق بالأمة من إهانة ومظلومية تاريخية منذ الحرب العالمية الأولى ووقوعها في براثن الاستعمار الغربي..
لا تقتصر هذه التحوّلات على ما يشهده العالم من صحوة تناصر قضية فلسطين ورواية النكبة الفلسطينية، شملت الجنوب العالمي ومراكز المتروبوليتان الغربي وعواصمه، بل ومدناً صغيرة بمختلف أصقاع الغرب، طارحةً بقوة أسوأ كوابيس الصهونية: تجريم "إسرائيل" وإسقاط شرعيتها، خاصة لدى الأجيال الجديدة..
يتصدر هذه الحراكات شباب في الغرب نشأوا في عائلات صهيونية راسخة، يهودية وغير يهودية، لكنهم تمردوا على سردية الصهيونية لصالح سردية فلسطين.. وامتدت ثورة الوعي الجديد نحو التعرف إلى الإسلام وحضارته، والبحث عن قصة الإنسان وإجابات عن أسئلة الوجود، وقِيَم ومبادئ الحق ومعايير العدل، والتماهي مع العدالة ونبذ الفاشية والإسلاموفوبيا والعنصرية والعدوانية الإمبريالية، كما تظهر مئات من مقاطع الفيديو ومنشورات وسائط التواصل..
لا مبالغة في القول إن هذه الحراكات قد تؤسس لموجة تحرر وتغيير اجتماعي واقتصادي، يتصدى للرجعية الغربية واحتكار الثروة والسلطة والفساد السياسي والظلم الاجتماعي والانحطاط الأخلاقي، نحو آفاق العدل والتراحم الإنساني؛ وتُغيّر وجه الغرب الاستعماري..
لم تقتصر هذه الحراكات على استنكار الإبادة والدمار والتجويع والمطالبة بوقفها لإنقاذ المدنيين، بل تجاوزت ذلك، كما تجاوزت أكذوبة "حل الدولتين" بسماجتها وسفاهتها إلى مطالبة صريحة بـ"فلسطين حرة"، من النهر إلى البحر! بل نجد معارضة جذرية للمشروع الصهيوني في الغرب يشترك فيها جيل الناجين من المحرقة النازية وجيل أحفادهم، بعد أن رأوا في الصهيونية حركة عنصرية توسعية..
جاءت "طوفان الأقصى" في لحظة إفلاس قيَمي واختزال معرفي وتجريف أخلاقي للوعي الإنساني والمثل العليا بيد الثقافة الإمبريالية الرأسمالية العنصرية الفاشية ومنظومتها المعرفية المادية، بينما تعاني البشرية فراغاً روحياً وأخلاقياً وتستشرف القيم النبيلة والمثل العليا، وتبحث عن قضية ضمير وحق وعدل لتتبنّاها وتتماهى معها وتناضل لأجلها..
وأكثر ما لفت شعوب العالم، والغرب بخاصة، إلى عدالة قضية فلسطين الصمود والثبات على الأرض والتماسك الصلب والاستعصاء على الانهيار كما شهده العالم في قطاع غزة؛ إذ ينهض الناجون من تحت أنقاض المجازر ولا يزال شهداؤهم تحت الأنقاض ليجددوا ثباتهم، ويؤكدوا رفض التهجير والترانسفير!
تظهر دراسة ردود فعل الغرب على "طوفان الأقصى" اندفاعاً جنونياً في دعم الكيان الصهيوني وتسليحه وإمداده لوجستياً واستخبارياً، وتبرير جرائمه، واعتبار الحدث تهديداً وجودياً للكيان. عدّ الرئيس الأميركي المقاومة الفلسطينية - مثل روسيا - عدواً وتهديداً، وشارك قلب نظام الاستيطان العالمي، أميركا وكندا وبريطانيا وأستراليا ونيوزيلاندا، في قيادة الحرب بوزارة الدفاع في "تل أبيب"، وأرسلوا ضباطاً وقدرات تجسس وجمعاً حربياً، و"قوة دلتا" الأميركية لحرب المدن، التي فقدت في بداية الحرب أفراداً حاولوا دخول غزة وعادوا أشلاء، ومشاركات استخبارية وعملياتية في عملية النصيرات لاستنقاذ أسرى الكيان يوم 8 مايو الماضي، وسقط فيها أفراد أميركيون.
إذاً، يشغل المشروع الصهيوني موقعاً مركزياً في منظومة الاستيطان العالمي والهيمنة الغربية، أكثر مما كان يُقدّر سابقاً، أي أن تفكيك المشروع الصهيوني، تحت وطأة انقساماته وصراعاته الداخلية أو فقدانه الشرعية أو تصاعد مقاومة فلسطين والأمة، سيعجل في تفكك السيطرة الغربية والأحادية القطبية، وهذا موضع ترحيب في عالم الجنوب وقوى نووية كبرى وقوى إقليمية، تريد تفكيك الأحادية القطبية لأجل نظام عالمي متعدد الأقطاب وأكثر توازناً.
يمكن إذاً إجمال التحوّلات الإقليمية والدولية لـ"طوفان الأقصى" في قضايا ستنعكس بالضرورة على النظام الدولي:
- عودة قضية فلسطين إلى صدارة اهتمام العالم بعد عقود من تنحيتها وطمسها وتصفيتها واختزالها، وانطلاق حركة تضامن عالمية معها، وتحركات وقرارات هامة في محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية والأمم المتحدة، واعتراف دول غربية عديدة بـ"دولة فلسطين"، وخروجها عن الموقف الأميركي.
- كشفت الملحمة المتواصلة منذ 9 أشهر عن شقوق وصراعات عميقة في المجتمع الاستيطاني الصهيوني، وانقسامات بالغة، وكراهية متأصلة بين فئاته السياسية والدينية والإثنية في ذروة الحرب العدوانية على قطاع غزة.
- انحطاط الكيان الصهيوني استراتيجياً وارتفاع كلفة استمراره وحمايته على الإمبريالية العالمية وتآكل دوره في خدمة الهيمنة الغربية، وأظهر فشله عسكرياً نهاية فاعلية التقاليد العسكرية الغربية وعجز الحروب الكبيرة عن حل مشكلات كبرى، وعودة القلق الوجودي حول مستقبل الكيان، بل تطور إلى يأس وجودي لدى نخبه.
- تضعضع المرجعية الاستيطانية العالمية ومركزها في واشنطن في ضوء استعصاء بنيامين نتنياهو وتمرده عليها، وعجز واشنطن عن السيطرة عليه وضبط إيقاع الأحداث وتطوراتها.
- أدى انطلاق حراكات الاحتجاج الشعبي في الغرب والعالم ضد حرب الإبادة في غزة إلى انهيار السردية الصهيونية وتجريم "إسرائيل"، ونزع الشرعية عنها أخلاقياً وسياساً وقانونياً وانكشاف أباطيلها وانتهاكها لبديهيات الإنسانية.
- انكسر شبه الإجماع الأميركي على تأييد "إسرائيل" المطلق ودعمها ، ودخول هذه المسألة نطاق عدم اليقين مستقبلاً، ما يحيل أميركا إلى تحذير توماس جيفرسون، رئيس أميركا الرابع وأحد الآباء المؤسسين من "الانخراط في مسعى رئيسي بأغلبية هشة"؛ وغدت معارضة سياسات الإدارة الداعمة للكيان قضية رأي عام واسع في عام انتخابي حرج، لأول مرة في تاريخ العلاقة الأميركية- الإسرائيلية.
- ونتيجة لدعم إدارة بايدن ومشاركتها في حرب الإبادة بغزة، يوشك الرئيس وحزبه على خسارة الانتخابات القادمة في نوفمبر 2024م، وعودة الرئيس السابق دونالد ترامب والجمهوريين إلى البيت الأبيض، وما يستتبع ذلك من فوضى واضطرابات تمس بالدولة العميقة الأميركية وسياساتها والنظام الدولي ومسار حرب أوكرانيا.
- تظهر خريطة أصوات الناخبين الأميركيين المؤيدة للحزب الديمقراطي، والوزن النسبي لجناحه التقدمي والشباب بين 19 و26 عاماً والعرب والمسلمين، صعوبة وصول أي مرشح رئاسي ديمقراطي مستقبلاً إلى البيت الأبيض، بسياسات إدارة بايدن نفسها تجاه قضية فلسطين.
- أثبتت أحداث "طوفان الأقصى" قدرة حركات المقاومة أو "الفواعل من غير الدول"، مثل حزب الله وأنصار الله وحماس والجهاد الإسلامي والمقاومة العراقية، على التصدي للعدوانية الإمبريالية وردع العدو، وطوّرت- ولو جزئياً وتحت الحصار- قدراتها وفاعليتها.
- وارتبط ذلك بتراجع تغوّل الدولة (الوطنية) في بلادها أو غيابها، وتُنبئ هذه الحالة بأن تفكيك الكيان الصهيوني وتحرير فلسطين سيترافق غالباً مع اضمحلال الدول (الوطنية) عربياً، بعد قرن من الهزائم والقمع والفساد وإذلال الأمة.
- في ضوء ما أسفرت عنه "طوفان الأقصى" حول موقع الكيان الصهيوني في النظام الدولي (الاستيطاني)، ستدرك القوى العالمية والإقليمية الساعية لنظام دولي متعدد الأقطاب أن تفكيك الكيان الصهيوني أحد مفاتيح تفكيك النظام الدولي الراهن، ما يعني قيام حركة دولية لتحرير فلسطين وتحرير العالم من سيطرة غربية دخلت طور النهاية كما لاحظ كُثر، كالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لكنها تنتظر نهوض القوى المتحدية وتحركها.
- أظهرت الانتخابات النيابية في فرنسا تحوّلاً في الخريطة السياسية وصعود اليسار، المنخرط بقوة في حراكات تناهض حرب الإبادة بغزة وتناصر قضية فلسطين، وتصدّرت الفائزين وجوهٌ مألوفة في تلك الحراكات تشدد على اعتراف فرنسي قريب بدولة فلسطين. وكذلك، بدرجة أقل، الانتخابات البريطانية التي جاءت بأغلبية تاريخية لحزب العمال وهزيمة ساحقة لحزب المحافظين وقيادته "الهندوسية" المتصهينة التي تدعم عدوان "إسرائيل" وتشوّه الاحتجاجات ضده.. وأشار رئيس الوزراء العمالي المنتخب، كير ستارمر، إلى حتمية قيام دولة فلسطينية، وشدد وزير خارجيته، ديفيد لامي، على موقف متوازن من الصراع وإنهاء الحرب في غزة وإغاثتها، وانعزلت الجيوب الصهيونية في البلدين في نطاق الفاشية واليمين العنصري المتطرف!
* كاتب فلسطيني وباحث ومترجم في التاريخ والاجتماع
عن "الميادين" |