د. زينب عوض حميد المزجاجي - مولد نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كان في الثاني عشر من ربيع الأول، ويحتفل المسلمون بذكرى ميلاده لتجسيد قِيَمه الدينية، فتلك اللحظة الفارقة في تاريخ البشرية، حين أشرقت الأرض بنور الرحمة الإلهية.. فلم يكن مولده مجرد حدث تاريخي، بل كان إيذاناً ببدء عهد جديد من القِيَم والمبادئ التي غيَّرت مجرى التأريخ والحضارة الإنسانية..
ولقد نشأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتيماً في مكة المكرمة، في بيئة تعج بالتحديات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.. ورغم تلك الصعوبات، تميَّز بأخلاق عظيمة شهد له بها القاصي والداني، فقد كان يُلقب بالصادق الأمين قبل بعثته.. وعندما أُنزل الله عليه الوحي، حمل رسالة الإسلام بكل إخلاص وتفانٍ، ناشراً نور الهداية ومبشّراً بالعدل والمساواة بين الناس..
وما يميّز سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو تجسيده الحي للقِيَم الأخلاقية العليا، فقد تعامل مع جميع الناس، بغض النظر عن أعراقهم أو دياناتهم، بعدل ورحمة.. وكان قلبه يتسع للإنسانية جمعاء، فقد قال فيه الله تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، وقال تعالى: "وإنك لعلى خلق عظيم".. لقد جسَّد التسامح في أبهى صوره، واستطاع أن يبني مجتمعاً يقوم على العدل والإحسان، حتى مع أعدائه..
فإن الاحتفال بذكرى مولد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ليس مجرد مناسبة عادية وصور تذكارية، بل لإظهار محبتنا لحبيبنا وسيدنا الرسول الأكرم، ودعوة للتفكر والتأمل في حياته الأخلاقية والاستفادة من سيرته العَطِرة ودراستها بصورة عميقة..
وتتنوع مظاهر الاحتفال بالمولد النبوي في مختلف أرجاء العالم الإسلامي، من المجالس التي تُتلى فيها سيرته العَطِرة، إلى التجمّعات الشعبية التي تمجّد هذه الذكرى بالنشيد والمديح.. ولكن الأهم من تلك المظاهر، إدراك أن الاحتفال الحقيقي يتمثل في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في سلوكنا اليومي وتعاملاتنا مع الآخرين.. ونعود لنتذكر كيف استطاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تغيير العالم برسالته السمحة وأخلاقه النبيلة.. فإننا مدعوون اليوم إلى تجديد علاقاتنا بتعاليمه، ليس فقط من خلال الاحتفال، بل من خلال تطبيق تلك التعاليم في حياتنا اليومية، ليكون هذا اليوم منبعاً لنور دائم ينير قلوبنا ويهذب سلوكنا..
وفي وقتنا الراهن، حيث تتفاقم التحديات الاجتماعية والنفسية، ونحتاج أكثر من أي وقتٍ مضى إلى العودة إلى قِيَم هذه الرسالة النبوية؛ لتعزيز روح الوحدة والتآلف في مجتمعنا؛ واستلهام هذه القِيَم لا يكون فقط بمجرد إحياء ذكرى مولده، بل في جَعْلِ السلام والوحدة منهجاً وتكافلاً اجتماعياً يومياً نعيش به ونعمل من خلاله لتحقيق الخير للجميع، وتتجدد الدعوة لإنهاء العدوان على اليمن الذي طال أمده وأثقل كاهل شعبه.. وفي هذه المناسبة العظيمة، نستلهم من سيرة النبي دعوته للوحدة والتآخي وبناء جسور التفاهم والمحبة، ونؤكد أن الحل للصراعات لا يكون بالعنف، بل بالحوار والتفاهم والمحبة ولَمّ الشمل وتغليب المصلحة العامة.. وإن اليمن اليوم بحاجة إلى السلام والتضامن لرفع المعاناة عن شعبه، واستعادة استقراره وتطوره..
ولا ننسى غزة الجريحة، التي تصارع العدوان والمعاناة، تذكّرنا بأهمية الوحدة والتكاتف.. وأن نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعونا إلى نصرة المظلوم وإرساء قِيَم العدالة.. وما يحدث في غزة اليوم يتطلب مِنا كأمة عربية وإسلامية الوقوف صفاً واحداً لدعمها والعمل على إنهاء الإبادة الجماعية فيها وإحلال السلام العادل والشامل..
وإن ذكرى المولد النبوي الشريف تمثّل فرصة لتجديد العهد على العمل نحو تعزيز الوحدة بين الدول والشعوب العربية والإسلامية، والعمل معاً من أجل السلام والعدالة في فلسطين وكل بقعة من العالم الإسلامي.. فبوحدتنا وتضامننا نحقق قوة تنبع من قِيَم وتعاليم نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، قوة تنصر الحق وتدعم المظلوم وتردع الظالم..
فلنكن على خُطَى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، رسول الوحدة والرحمة والعدل، ولنجعل من هذه الذكرى منارة تضيئ طريقنا نحو مستقبل مليئ بالسلام والأمن والحرية والعزة والكرامة. |