عبدالله أحمد السياري - قرأت بعض المراجع عن الكابتن هينز الذي احتل عدن بقوة السلاح في 1839م؛ واتضح لي أن الرجل كان بلطجي المنهج في تعامله حتى مع غيره من الإنجليز..
أهم تلك المراجع وكلها بالإنجليزية هي:
عدن تحت الحكم البريطاني -1839-1967 (المؤلف ر.ج.جافين)
جلسات مجلس اللوردات البريطاني 1839م مجلد رقم 8 (المراسلات حول عدن)
مجلة بلاكوود من أدنبرة مجلد رقم 53 (أبريل 1843م (صفحة رقم 80 إلى 89)
حدثت المعركة التي انتهت باحتلال عدن في19/1/1839 وقِيل إن المهاجمين كان عددهم 700-800 من الجنود الإنجليز والهنود بقياده الكابتن هينز، والمدافعون كان عددهم ألف بقيادة السلطان محسن بن فضل العبدلي سلطان لحج وعدن وابنه حامد.. المعركة كانت غير متكافئة إذ لم يملك العرب غير أسلحة يدوية وقليل من المدافع، بينما امتلك الإنجليز كل الأسلحة البحرية المتقدمة حينها..
يعرف الكثيرون أن الكابتن هينز هو الذي احتل عدن وأخذها بقوة السلاح ولكن بعد مقاومة عنيدة من السكان المحليين وقبائل من أبين ولحج، وقد كانت أول مستعمرة تضاف إلى التاج البريطاني إبان حكم الملكة فكتوريا..
قرار حكومة بريطانيا باحتلال عدن أخذ وقتاً طويلاً لاتخاذه وحتى بعد احتلال عدن كان هناك من بين المسئولين البريطانيين الكبار ممن حث على الانسحاب..
احتل البريطانيون جزيرة سقطرى لمدة قصيرة في عام 1835م إلا أنهم اضطروا لمغادرتها لانتشار المرض بين الجنود ورفض سلطانها بيعها لهم.. وكان أحد المشاركين في المحادثات حول سقطرى الكابتن هينز نفسه الذي اعتبره البعض السبب في فشل المحادثات مع سلطان سقطرى نظراً لتهوره وقلة حكمته وكياسته..
وفي العام نفسه (1935م) اقترح هينز على قائد البحرية، عدن كأكثر ملائمة من سقطرى واقترح احتلالها في الحال بالقوة (وكان ذلك قبل حدث السفينة "دوريا دولت" التي اتخذ منها البريطانيون "قميص عثمان" لاحتلال عدن بسنتين)..
كان الأسلوب المفضل لحكومة بريطانيا عبر الهند هو الأخذ بالطريق السلمي للوصول إلى موافقة السلطان، بينما كان هينز دائماً يأخذ خطاً أكثر تطرفاً مما يوصون به..
كانت هناك أمثلة كثيرة تبين أن هينز لم يكن يتفاوض مع السلطان بنية حسنة، بل في كثير من الأحيان بشكل مريب وبنية الإيقاع به بأسلوب يخلو من الشرف، ومن ذلك ادّعاؤه المتكرر لحكومته أن السلطان ينوي قتله أو خطفه واستمراره في الفتنة بين السلطان وابنه..
الوثيقة التي ادَّعى هينز أنها تمثل قبول السلطان لإعطاء عدن للإنجليز لم يعترف بها السلطان كوثيقة صادرة منه وأنكر السلطان كتابتها، وقال إن خادم هينز –الملا جعفر- سرق الختم ولفقها؛ وعلى أي حال كانت في حقيقه الأمر واهية غامضة وفي كل بنودها كانت ترحّل اتخاذ القرار النهائي إلى مراحل لاحقة من المحادثات.. ومع هذا أمعن هينز في إبراز هذه الوثيقة وحملها أكثر مما تحتمل، واستعملها -ظلماً وبهتاناً – لاحتلال عدن لاحقاً..
كما استعمل قصة قتل أو أسر هينز المفبركة في اتجاه تبرير احتلال عدن، فقد كتب جرانت حاكم الهند حول ذلك:
"لا يسعني إلا أن أحيّي هذا الحادث السعيد (يعني قتل أو أسر هينز) إذ تبين بشكل قاطع حاجتنا إلى الإمساك بموانئ عدن في أيادينا"..
في نوفمبر 1838م احتل هينز إحدى الجزر المحاذية لعدن إلا أنه اضطر لمغادرتها بعد معركة مع خمسين من رجال القبائل العبدلية.. وخلال الشهرين اللاحقين تمت "محاصرة" و "محاصرة مضادة" بين الطرفين ومنعت القبائل وصول المياه والحطب لسفينة هينز؛ وفي المقابل منع هو وصول السفن التجارية إلى ميناء عدن..
وكما كتب جافين في كتابه :"وكما حصل لاحقاً في تاريخ عدن تمكن مرؤسون توسعيون من القيام بما يحلو لهم دون علم وحتى ضد إرادة رؤسائهم"..
وفي ثنايا المراسلات بين هينز وحكومة بومباي استنتج ما يلي:
أن السبب الرئيسي لاحتلال عدن من قِبَل البريطانيين هو جعلها موقعاً لتعزيز السفن البريطانية المارة بالفحم –أي أن تكون مستودعاً للفحم.. ولهذا الدافع كان لا داعي لغزو عدن على الإطلاق..
كان هينز يجنح إلى التصعيد ويدفع تجاه احتلال عدن بقوة السلاح.. وكان باستمرار يحث الحكومة البريطانية في الهند على إرسال رسائل غاضبة لسلطان عدن ولحج السلطان محسن بن فضل وابنه حامد، كما يحثهم على قطع وصول المؤن إليهم، وعلى احتلالها بقوة السلاح..
ولعلي هنا أخمن أن دوافع الكابتن هينز على هذا التحريض كان وراءه مصالح شخصية، ولعله كان وُعد من قِبل شركة الهند الشرقية بأن يكون مندوبها السياسي في عدن –إن هي أضحت في يد الحكومة البريطانية- وهذا ما حصل بالفعل..
إذ أن ما لا يعرفه الكثيرون هو أن هينز عين "وكيلاً ( أو مندوباً) سياسياً " لشركة الهند الشرقية بعد احتلال عدن وبقي في هذا المركز لمدة 15 سنة (1839-1854).. ويبدو أنه كان مدمناً للعمل إذ قيل إنه لم يأخذ إجازة واحدة خلال تلك المدة كلها..
إلا أن هناك لمحات من حياته توحي بأن له جوانب غير حميدة تجنح إلى البلطجية غير الأخلاقية في تكوين شخصيته، وقد اعتقل الكابتن هينز بعد اكتشاف المدققين الماليين أن هناك مبلغ 28000 جنيه مفقوداً في حسابات حكومة عدن (وهذا المبلغ يساوي قوة شراء مبلغ 1.8 مليون جنيه بسعر اليوم)؛ واستدعي إلى بومباي في فبراير 1954م وحُوكم بتهمة الاختلاس والاحتيال، ولم يثبت ذلك ضده في المحاكمة إلا أنه حُكم عليه بالسجن في سجن المدنيين حتى رأف عليه حاكم بومباي في 9/6/1860 بعد سجن دام ست سنوات، ومات بعد إطلاق سراحه بأسبوع وهو في داخل سفينة في ميناء بومباي كانت متوجهة إلى إنجلترا..
كما أنه كان دوماً يخلق المشاكل المتكررة مع القادة البريطانيين العسكريين في عدن لأسباب تعود لصراعات سلطوية حول من هو المسيطر على عدن؛ ومن ضمن هؤلاء العسكريين النقيب بايلي، ومن بعد ذلك المقدم كابون، مما اضطر حكومة بومبي -(ويجب التذكير هنا أن عدن كانت تحكمها بريطانيا عن طريق الهند ونقل إلى الحكم المباشر من لندن في عام 1939م)- للتدخل مراراً لفض النزاع بين الطرفين المتنازعين..
والغريب أن الوضع الذي أسست له حكومة بومباي في عدن شكل مدخلاً وتشجيعاً لهذه المماحكات والصراعات حول السلطة إذ أن هينز لم يُعطَ مركزاً يؤهله ويعطيه حرية التصرف، إذ لم يكن حاكماً لعدن، ولم توضع الحامية البريطانية تحت إمرته وتصرفه..
وتككرت المنازعات بين هينز والقادة العسكريين البريطانيين لسنوات متكررة (في 1841 و 1846 و 1847م)، وفي كل هذه الحالات كان هينز أحد أطراف النزاع، بينما كان الطرف الآخر مختلفاً في المنازعات المختلفة مما يلقي بالشكوك حول شخصية هينز وقدرته على التواصل والتعامل مع الآخرين.. كان هينز شديد الحساسية وسريع الغضب، ويبدو أنه كان يعاني من افتقاد للثقة..
مر اللورد داهلوسي على عدن في طريقه إلى الهند وسجل الملاحظة التالية:
"سيلاحظ المرء أن إدارة هينز لعدن تثير الدهشة والصدمة لكل من يؤمن بأهمية الإدارة المنظمة والمنضبطة".. وأضاف: "هناك كل أصناف الترتيبات الخاصة والصفقات الشخصية التي لا تلتزم بأي نظم تتحكم فيها".. ثم أضاف: "المقربون لهينز وأصدقاؤه يحصلون على ما يريدون ويتصرفون كيفما يشاؤون، بينما أولئك الذين يصطدمون معه أو مع أصدقائه يلاقون الإملاءات المفتعَلة والعداوات والإهمال".. وأضاف:
"وقد أطلق العسكريون في عدن على طريقة هينز بالإدارة "بالحكم القمعي"، وكان العسكريون لا يثقون بوكلاء ومساعدي هينز الذين يطلقون عليهم صفة "الطغاة الصغار"، ويشمئزون من تصرفاتهم، وقد أكدوا على شعورهم هذا عن هينز في رسائلهم الرسمية أو في رسائلهم السرية إلى الصحافة البريطانية في الهند"..
وفي مجابهته لضباط المعكسر البريطاني كان هينز لا يتوانى عن استعمال أي أسلوب مهما بلغ من السفالة بما في ذلك انتزاع أخبار عن علاقات جنسية لأعدائه..
كان محباٍ وناجحاً في أسلوب المؤامرات والدسائس، وكان حوله مجموعة من المقربين من أهالي عدن الذين يشاركهم ويشركهم في الدسائس، وكان يتصرف بعدن كأنها ملكية خاصة له..
ومن شلته المقربين كان هناك ثلاثة من الفرس وهم ملا جعفر وحاج عبدالرسول ومحسن شاه مونتي، إلى جانب علي ابوبكر وشيخ طيب برمجي وسورباجي كوسجي، وقد وصفهم جافين في كتابه بأنهم تجار فاسدون تهمهم مصالحهم قبل كل شيء، وهم قصيرو النظر إلا أنهم كانوا مفيدين لهينز في طريقة تعامله الدسائسي والمؤامراتي..
وفي المقابل بينما كان العسكريون يحترمون السادة آل العيدروس في عدن، كان هينز لا يحبهم أو يعيرهم اهتماماً..
وكانت أكثر المعلومات السرية نفعاً له ما كان يتلقاه من يهود عدن نظراً لعلاقتهم المالية مع أطراف كثيرة في لحج وتعز والمخا..
السلطان محسن، سلطان لحج وعدن، شكك في شرعية هينز أو حتى أنه ممثل لبريطانيا؛ وخطر في باله أن هينز لا يمثل إلا نفسه ويدَّعي ارتباطه بحكومة بريطانيا.. وقال السلطان عن هينز إنه لا يشبه في سلوكه وتعامله بقية الإنجليز..
وقد أضاف لشكوك السلطان أن هينز يعمل لمصلحته الخاصة.. ما حدث منذ سنوات قليلة (1834م) عندما ادعى شخص باسم تركي بالماس أنه يمثل الحاكم المصري لاحتلال عدن فعند اكتشاف السلطان أنه مجرد نصاب لا يمثل حاكم مصر قتله مع الأربعين جندياً الذين كانوا في معيته..
ولا شك أن هينز في محادثاته مع السلطان استعمل طرقاً شتى في المراوغة والخداع والترهيب بقوة بريطانيا العظمى..
كان السلطان يكن كراهية عظيمة لهينز، وقد عبر عن ذلك في رسالة قال فيها إنه مقتنع بأن هينز قد عزم أمره بأن يأخذ عدن بالقوة.. وأضاف: "ذلك الرجل في قلبه يريد أن يحكم عدن ولن يتمكن من ذلك حتى بلوغ السيوف إلى رقابنا"..
رسالة في نوفمبر 1838م كتب فيها السلطان ما يلي:
"أحس في قرارة نفسي بأن الكابتن هينز الذي أرسل سكن محياه تصميم على قتالنا.. أنا لم أعده بشيء، وما قال غير ذلك لحكومته كذب.. كل ما يقول سيئ فلا تستمعوا إليه.. أنا أعرف أنه لن يتركني حتى يقاتلني، أرى ذلك في وجهه، وبعد أن تحادثنا تأكدت لي نيته تلك فحاولت الهروب منه لمدة شهرين"..
وأضاف: "هو يقول إن لديه وثيقة وصكاً مني وبختمي.. ولكني أقول إنه كاذب في ذلك.. أنا لم أرسل له ذلك أو أتحدث معه حولها.. هذا كله كذب وشيء مخزٍ.. إن كان لديه هذا الصك دعه يظهره، وإن كان فيه ختمي فسيكون ذلك شهادة ضدي.. اذا كان لديه هذا الصك سأذعن لما فيها إذا أراني أنها مختومة بختمي"..
" هذا الكابتن ادعى ذلك علي.. تلك هي أفعاله ولن نستمع له . لدينا معاهده مع حكومتكم أود أن أقابلكم وستحكمون بعدها على صحة كلامي.. ذلك الرجل يخطط لحكم عدن ولن يتمكن من ذلك حتى توضع السيوف على رقابنا"..
وهناك من يدَّعي أن السلطان باع عدن للإنجليز وهذا يتعارض مع رسالة واضحة كتبها لحاكم بومبي في فبراير 1838م قال فيها "هناك مثل عربي يقول "دع الجسد يحترق، ولكن لا تدع الوطن يُخترق".. وفي رسالة أخرى كتب "الأرض يمتلكها العرب والمسلمون"..
وأنا في اعتقادي أن السلطان كان يماطل الإنجليز كي لا يعتدوا ويأخذوا عدن، ولم يتعهد إطلاقاً ببيع عدن للإنجليز، وهذا باعتراف هينس نفسه..
ملاحظة أخيرة
لم تتوقف قبائل العبدلي من لحج والفضلي من أبين عن مجابهة ومحاربة البريطانيين بعد احتلالهم عدن، فقد استمروا لسنوات عدة في الهجوم على الحامية البريطانية بعدن خاصة في اتجاه الحائط التركي، أحياناً بأعداد تصل إلى آلاف مما اضطر هينز لزيادة الحامية البريطانية من 800 إلى 4000 جندي..
ومن المعارك التي كانت حامية الوطيس هناك معركتان جرتا في مايو ويوليو 1840م شاركت فيها قبائل العبدلي والحواشب والفضلي وقبائل أخرى من عدن وحولها، وحدثت معارك مباشرة باليد بين أشخاص من الجانبين.. وفي إحدى تلك المعارك قُتل ابن أخ سلطان لحج وشيخ الحواشب الذي قيل إنه قاتل بشراسة وشجاعة منقطعة النظير.. |