عاهد الزبادي - لو لم يكن للقضية الفلسطينية إلا السنوار لكان ذلك برهاناً كافياً على عدالة هذه القضية.. إصرار الرجل، عناده، عزيمته، قوة إرادته، رباطة جأشه، ثباته الانفعالي في أحلك الظروف، كل ذلك لا ينبع إلا من أساس متين، ويقين مطلق، وقوة لا متناهية، وتلك هي العدالة في أقصى تجلياتها..
إننا أمام رجل قضى نصف حياته في ميادين القتال، ونصفها الآخر في سجون الاحتلال.. اثنان وعشرون عامًا في السجن كفيلة بجعل الإنسان متصالحًا مع الأسر، مدمنًا على الخضوع، مازوخيًا يقف في صف جلاديه ويتلذذ بتعذيبهم له، أو عدميًا كارهًا للوجود برمته، أو ساذجًا متبلدًا فاقدًا للإحساس.. فقط أولئك الذين تسكنهم أوطانهم كما يسكنونها، وتعيش فيهم كما يعيشون فيها هم من لا يجدون في السجن حصارًا، لذلك تجدهم يخرجون من تجربة اعتقال مريرة كهذه بنفس الثبات والتوازن النفسي، بنفس الإرادة والثقة والعزيمة، وبنفس الشغف والحماس، وكذلك كان السنوار الذي خرج من هذه التجربة أكثر صلابةً، وأشد بأسًا، وأقوى حماسًا واندفاعًا وشغفًا.. لم يثنه الاعتقال، ولم يكسر إرادته، ولم يهز ثقته بقضيته وعدالتها. وبدلًا من أن يجد في خروجه فرصة ليعيش الأيام المتبقية من حياته بهدوء بعيدًا عن صخب النضال وويلاته، خرج ليخطب في الناس قائلًا إنه يفضل الموت بالإف16 أو بالأباتشي على أن يموت بسكتة قلبية، وكأني بالمتنبي يقول:
إذا غامرت في شرفٍ مرومِ... فلا تقنع بما دونِ النجومِ
فطعم الموتِ في أمرٍ صغيرٍ...كطعمِ الموت في أمرٍ عظيمِ
لم يكن السنوار مفكرًا، لكنه أعاد تشكيل الكثير من المفاهيم الراسخة في أذهاننا، ولم يكن فيلسوفًا ولكن التأمل في تجربته تصنع الفلاسفة!
تأمله جيدًا، نبرة صوته القوية، خطواته الواثقة. تأمله أسيرًا ومناضلًا.. تأمله وهو يعيد تشكيل المفاهيم وصياغة التصورات.. الحياة والموت، القوة والحق، العقل والإرادة.. تأمله وهو يخوض حربًا ليحاصر الحصار، لكأنه نفخ الروح في أبيات درويش القائلة:
حاصر حصارك لا مفر
حاصر حصارك بالجنون وبالجنون
ذهب الذين تحبهم..ذهبوا فإما أن تكون.. أو لا تكون
أصغِ إلى وقع خطواته وهي تقول إن الحق بلا قوة حلمٌ جميل، والقوة بلا حق واقع مرير، ثم اصغ إلى صوت رشاشه وهو يقول إن قوة الحقيقة أبقى من حقيقة القوة، وإن حرية الإرادة لن تُنال إلا بإرادة حرة.. تأمل قوة إرادته الساخرة من عقلانية العبيد، أولئك الذين اتخذوا من العقل حجة لمهاجمة حماسه واندفاعه، ومبررًا لخضوعهم وخنوعهم. تأمله وهو يلقنهم درسًا في الفلسفة فحواه أن العقل أداة الإرادة المنقادة لها، فمن أراد الحرية فسيجد في العقل ما يدعم إرادته هذه، ومن اختار العبودية فسيجد في عقله ما يدعم هذه العبودية.. تأمله وهو يكشف "عقل العبيد"، كما كشف نيتشه من قبله أخلاقهم.. أصغِ إلى صوت مسدسه وهو يثير أسئلته الوجودية، أليست غاية العقل الحفاظ على الحياة؟ وما قيمة هذه الحياة بلا حرية؟! إن الحياة بلا حرية عدمٌ محض، على حد تعبير سارتر، ليضيف عليه السنوار: إن الموت لأجل الحرية وجود خالد.
تأمله وهو يقوم بواجبه الأخلاقي دون الأخذ بمعايير الربح والخسارة، لكأنه يتمثل قول كانت في "أخلاق الواجب" ليخرج لنا منها بمفهومين مختلفين عن النصر والهزيمة، فالنصر، لدى السنوار، هو أن تقف في صف الحق والعدالة وإن كلفك ذلك حياتك، والخسارة لديه هي أن تحيد عن هذه القيم ولو حظيت بالنعيم الخالد!
من الصعب جدًا أن تجد شخصًا يعيش لأجل فكرته، لكن الأصعب هو أن تجد شخصًا يموت لأجلها، أما السنوار، فقد عاش لفكرته ومات لأجلها، وكأنه يقول مع ماركس إن الحياة هي الفكرة، ويزيد عليه بقوله، والفكرة هي الحياة، فيتمثل بذلك قول سيد قطب:
أخي إنني ما سئمتُ الكفاح
ولا أنا ألقيتُ عني السلاح
فإن أنا متُّ فإني شهيد
وأنت ستمضي بنصرٍ جديد
لقد جسد السنوار كل القِيَم الإنسانية السامية، تلك القيم التي تمثل المشترك الإنساني، وهو ما يجعله، في نظر كل ذي فكر نزيه متحرر من أسر الأيديولوجيا، رمزًا عالميًا للنضال وأيقونة إنسانية للحرية..
إننا أمام رجل أعاد للسياسة شرفها بعد أن أصبحت مهنة سيئة السمعة بفعل ساسة العالم المعاصر، فهو الزعيم السياسي الذي تقدم صفوف القتال وفضّل أن يموت في سبيل انتزاع حقه في الوجود من براثن العدم، على أن يحيا متسولًا ذلك الحق من موائد اللصوص..
رحل السنوار الرجل الذي أعطى الإنسانية كلها درسًا في الصبر والثبات والإرادة والحرية.. رحل وقد حفظت لنا التكنولوجيا مشاهد من آخر لحظات حياته تبرهن لكل ذي بصيرة وعقل سليم من هو صاحب الحق ومن هو اللص.. رجل ملثمًا بالكوفية نهض من تحت الركام ليجلس على أريكة قريبة منه بثبات دون أن يحاول الاختباء حتى. إحدى يديه تنزف دمًا، والأخرى تحمل قطعة من خشب أو من حديد المبنى المتحطم.. بثبات ينتظر الاشتباك والمعركة، لكأنك أمام فارس خرج من بين سطور إحدى الأساطير. وفي الخارج جيش مجهز بترسانة أسلحة ضخمة لم يجرؤ جنوده على الدخول بعد، فيرسلون طائرة استطلاعية لتفحص المكان، ليستنهض الفارس ما تبقى لديه من قوة ويقذف طائرتهم بتلك العصا المتناثرة من ركام المبنى، لكأنه يجسد قول درويش:
سقطت ذراعك فالتقطها... واضرب عدوك لا مفر
وسقطتُ قربك، فالتقطني...
واضرب عدوك بي فأنت الآن حر
يلقون عليه القذائف، ليرتقي شهيدًا بعد أن أسقط زيف أسطورتهم وكشف وهنهم. يقترب منه الجنود بخطى خائفة، يتلمسونه بأيادٍ مرتعشة، يتفحصون وجهه، أسنانه، فلا يصدقون.. إنه جثة هامدة، لا يملك سوى بندقية، وبلا أي تحصين، فما سر قوة هذا الرجل؟ ولم يعلموا أنه يمتلك قوة العدالة وهي القوة التي لم ولن يمتلكونها يوماً.. لا يمكن لأكبر ترسانة أسلحة في العالم أن تعطي اللص قوة وثقة صاحب الحق.
إن اللصوص وإن كانوا جبابرة
لهم قلوبٌ من الأطفال تنهزمُ..
يأخذون جثة الرجل معهم، وهم يظنون أنهم قد قضوا على المقاومة بالقضاء عليه. لم يتعلموا من حقائق التاريخ وتجارب الشعوب إن المقاومة فكرة والفكرة لا تموت. أغرتهم جثته الهامدة بين أيديهم، وظنوا أن القضية قد انتهت، ولو أنهم أصغوا قليلًا لسمعوا روحه الحائمة حولهم تهتف: "فوجودي ليس يخشى عدمي".
|