منى صفوان - نحن مع الفن، بل نحن أهل الفن والطرب بأنواعه، والرقص ، والشعر، والحضارة والثقافة، والأهازيج والدان، والزوامل.. نحن بيوت العرب الأوائل، في كل فنون الأدب، والنقش على الحجر، والرسم، والتغنّي بالمطر، والبن، والشمس والقمر، والحب والجمال والغزل، ومواسم الزراعة والحصاد، وكذلك مواسم الحروب، وما زالت الآثار اليمنية المدفونة والمكتشَفة، تتحدث عن كثير من هذا السحر المكنوز..
ارتبطت الموسيقى ارتباطاً وثيقاً بالحضارة اليمنية منذ ألفي سنة قبل الميلاد
طقوس تحولت لتراث ثري ، أثرى الشعوب الفقيرة فنياً، وفلكلور ارتشف منه الخليج العزيز القريب لسنوات، وهذا طبيعي في علاقات التأثر والتأثير، ودليل صحة هذا الفن وصلاحيته، انه انتقل عبر الجغرافيا ولم يبق محصوراً بين الجبال والوديان اليمنية..
اشتهرت اليمن بالغناء عبر تاريخها الطويل. ويذكر المسعودي أن اليمن عرف نوعين من الغناء: الحِمْيَري، والحنفي، لكنهم -أي اليمنيين- كانوا يفضلون الحنفي، وكانوا يسمون الصوت الحسن "الجدن"، وأُخذ هذا الاسم من "علي بن زيد ذي جدن"، أحد ملوك حمير الذي يرجع إليه غناء أهل اليمن، وقد لُقب بـ"ذي جدن" لجمال صوته، وقد اشتهر المغنون اليمنيون في عصور مختلفة؛ ففي نهاية العصر الأموي وبداية العباسي اشتهر منهم "ابن طنبور"، الذي عُرف بالغناء الخفيف المسمى "الهزج"، ووصفه المؤرخون أنه كان أهزج الناس وأخفهم غناءً..
فاليمن ليس ضد الفن، ولم يحرمه او يجرمه يوماً طوال تاريخه الطويل، بل عبر في كل حقبة ومرحلة عن نفسه بانواع مختلفة من الفنون، رقصاً وغناء، وشعراً ونثراً، فللحرب رقصة، وزوامل، وللمطر اشعار، وللزرع والثمار أهازيج.. والأشعار التي علقت على الكعبة، والاغاني التي عرفها اليمن القديم، ممتزجة ايقاعاتها بالجبال والصحارى والوديان والسهول الخضراء والبحار، فتنوعت رقصاته منذ فجر التاريخ.
منذ الألفية الأولى قبل الميلاد إلى الألفية الثانية بعد الميلاد
ويذكر الهمداني في كتاب الإكليل أنه وُجد في مغارة متقادمة تمثالان عظيمان، هما في صورتي قينتين (جاريتين)، إحداهما تمسك بآلة الطنبور، والأخرى بآلة المزمار، ويعيد بعض مؤرخي الطرب والغناء والإيقاع ظهوره إلى وجود الإنسان على هذه البسيطة، ويرى بعضهم أنه وجد في عهد "عاد"..
عُرفت الآلات الموسيقية وفن الموسيقى في ثقافات اليمن القديم وحضارات الشرق الأدنى التي تمثل أدلة واضحة على ازدهار هذا الفن الذي عبر فيه الإنسان القديم عن مشاعره وأحاسيسه وعواطفه وأفكاره ذات الطابع الديني والدنيوي الخاص الذي يتناغم فيه بالتراتيل والأناشيد الدينية والدنيوية. شعر الإنسان بالموسيقى التي توالت منذ حياته البدائية وبألحان الطبيعة المحيطة به، وتأثر بموسيقى الكون والطبيعة، فابتدع معزوفته الموسيقية الأولى.
ويؤكد هنري جورج فارمر في مقدمة كتابه عن نشأة الموسيقى دور الممالك العربية الجنوبية في نشأة الموسيقى التي تؤرخ لبداية الألف الأول قبل الميلاد وتطورها، كما أنه استشهد بأحد نقوش بانيبال الآشوري (7. ق م) الذي يبين فيه إعجاب الآشوريين بموسيقى العرب، داعمًا ذلك بأن الأسرى العرب كانوا يقضون وقتهم في الغناء والعزف خدمة للملوك الآشوريين.. أما الألماني هولفريتز فقد قام خلال رحلته إلى اليمن بتسجيل أكثر من مئة نوع من أنواع الموسيقى التقليدية، وأوضح أن أسباب هذا التباين تعود إلى خصوصية بيئة وثقافة قبائل البدو، وتنوع الطبيعة الجغرافية، وقد وجد أن هذين العاملين أثرا على التنوع الموسيقي في اليمن وميزاها عن الموسيقى المألوفة لدى مُدن الشرق الأدنى، لكنه وجد تشابهًا كبيرًا بين الألحان الموسيقية اليمنية وبين الموسيقى البربرية لدى قبائل أفريقيا الشمالية وتحديداً المغرب، والتي انتقلت إليها منذ العصور الحجرية عن طريق العرب الجنوبيين (اليمن) والبربر.
تاريخ امتد آلاف السنوات، منذ الألفية الثانية قبل الميلاد إلى الألفية الثانية بعد الميلاد، تاريخ الفن في اليمن هو تاريخ البشرية
فن أصيل حقيقي نقي، من صميم الحضارة والشخصية اليمنية، ليس دخيلاً ، ولا متطفلاً، يمثل الرقي، والجمال، والرقة، فن وذوق رفيع، لا يقارَن بشيء، فاليمن مهرجان فني مفتوح طوال العام.. كل شيء ينطق فيه رقياً وعظمةً وإبهاراً.
|