د. عبدالوهاب الروحاني - يُحكى في تراثنا الشعبي اليمني أن قبيلياً كان في طريقه يسير آمِناً قاصِداً منزله، وفجأة اعترضه قاطع طريق، مهدّداً ومتوعّداً، فخَـيَّره أن يسلبه كل ما معه أو يقتله، فآثر الرجل السلامة وسلَّمه حقيبته وكل متاعه، وحاول الاحتفاظ بعصاه وجنبيته (خنجره) حتى يحفظ ماء وجهه بين من سيقابله من أهله وأبناء قريته، فرفض قاطع الطريق وأصر إلا أن يسلّم كل ما معه، فأذعن القبيلي وسلَّم عصاه كما سلَّم جنبيته، لكنه ظل محتزماً بالعسيب (الغمد) في خصره..
لم يكتفِ قاطع الطريق بكل ما أخذه، فزاد وأمر بتسليم "العسيب"، الأمر الذي وجد فيه القبيلي إهانة ما بعدها إهانة، فانتفض وغضب غضباً شديداً، وتنحَّى جانباً وصرخ قائلاً: "إلا الخفنق.. والله ما سبرت"، وبدأ يرعد ويزبد ويهجم، فخاف قاطع الطريق وتراجع عن مطلبه، وكانت بداية هجمة مرتدة استعاد بها الرجل كل أشيائه، وعاد إلى منزله بكرامته وأمتعته سالماً..
تحضرني هذه القصة أو الحكاية وأنا مع كل العالم الذي يتابع باستغراب تقليعات الرئيس ترامب، وتنمُّره على جيرانه، وعلى غزة وحلفاء وأصدقاء أمريكا من العرب، والأوروببين والعالم..
ثلاث لاءات
هدد ترامب وأرعد وأزبد وما يزال.. فقال سيجعل من كندا الولاية الواحدة والخمسين من الولايات الأمريكية، وسيشتري بنما، ويضم غرينلاند، فقالوا له أراضينا ودولنا ليست للبيع، ثم قال سيفرض تعرفة جمركية بـ 25%، فقالوا له الخطوة بالخطوة والدولار بالدولار، ونفس السيناريو انسحب على المكسيك، وأصدقائه الأوروبيين.. وبدأ الترامب يتراجع مع كل ضربة مرتدة يتلقاها..
أما غزة التي دمرتها إسرائيل بأسلحة دمار أمريكية، وتمويل أمريكي، فقال إنه سيشتريها، ثم سيحتلها ويحوّلها إلى "ريفيرا" الشرق، ويهجّر أهلها ويمنحهم قطع أرض يعيشون فيها بأمان وسلام في مصر والأردن.. وقال بأن الرئيس السيسي والملك الأردني سيقبلان وسيفعلان، (وكرر) نعم سيقبلان وسيفعلان.. وبدا بتصرفه هذا ليس فقط كمطوّر عقاري في مكتبه يأمر موظفيه فيطيعون.. وإنما كقاطع طريق مجنون..
هنا، بدا الأمر مع أقرب حلفائه من زعماء المنطقة العربية وكأنه إهانة، وفُـهِمَ كذلك؛ فكان الرد المصري والأردني والسعودي بثلاث لاءات قاطعة.. لا تهجير، ولا بيع ولا شراء لغزة و"لا تفريط بالقضية الفلسطينية إلا بحل الدولتين، وسلام شامل وعادل يضمن إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة"، وهو موقف محمود يُحسَب لمصر والأردن والسعودية.. تفاعل معه وتفاءل به الشعب العربي كما لم يفعل من قبل..
الرد الأكثر قساوةً
ملك الأردن الذي وجد نفسه في البيت الأبيض في مواجهة غير متوقَّعة مع رئيس نرجسي متغطرس بدا مستغرِباً، وربما مرتبِكاً من كلمات مضيفِه الرئيس، لكنه ردَّ بلباقة الضيف الذي يراعي الأعراف والأصول، وقال: "سنقدم خطة عربية موحدة تُـعِدُّها مصر، وسنناقشها في السعودية بما يحفظ مصالح الجميع".. وكان برأيي المتواضع رداً كافياً.. فالملك عبدالله لم يكن في حلبة صراع ثيران حتى يرد النطحة بمثلها..
الجديد الأهم، والأكثر دبلوماسيةً وإيلاماً وقساوةً جاء من الرئيس عبدالفتاح السيسي، الذي ألغى أو أرجأ زيارة كانت متوقَّعة لواشنطن، وكان موقفاً قوياً ورداً حازماً عبَّر عن مصر الموقف والأمل.. ثم جاء بالرد المزلزل الآخر المتمثّل في بدء تنفيذ "خطة إعمار غزة" بدون تهجير وبلا "ريفيرا" ولا بطيخ ترامب..
هنا فقط أدرك الرئيس ترامب المعنى.. فتراجع وقال: "لا لا، لا أريد شراء غزة"، ثم يأتي وزير خارجيته ويقول "إن الرئيس لم يقصد تهجيراً، وإنما نقل مؤقت حتى يتم تنظيف غزة من الألغام وتصبح صالحة للعيش".. ذلك لم يكن موقف ترامب ولا مبعوثه ولا وزير خارجيته ووزير دفاعه، وإنما كان هو الرد العربي.. أفهمتم.. ؟!
شعوب الأمة من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب تنتظر من القمة العربية المقبلة أن تكون استثنائية وجديدة ومعبّرة عن طموحاتها ومواقفها.. ذلك لأن بيد العرب أوراقاً وعِصِياً وخناجر كثيرة، ويمكن بها أن يقولوا لترامب كما قال القبيلي لقاطع الطريق: " إلا الخفنق، والله ما سبرت".. وبإمكانهم أن يسبروها كما أرادوا لها إنْ أجمعوا على كلمة سواء ولكن قوية وحازمة.. ولعلها بداية العودة إلى الذات.
|